جفرا نيوز -
جفرا نيوز - كتب علاء الدين أبو زينة
كتبت صحيفة "الغارديان” البريطانية في مقال افتتاحي مؤخراً: "المملكة المتحدة سيئة في التعليم المهني للمراهقين والبالغين. فلمجموعة من الأسباب، حيث التكبُّر يحتل مكاناً عالياً في القائمة، كنا نتفاخر منذ فترة طويلة بجامعاتنا المشهورة عالميًا. وعلى النقيض من ذلك، ظللنا نستخف بالمؤهلات التقنية من جميع الأنواع، ونفكر في التدريب المقدم لنصف السكان الذين لا يذهبون إلى الجامعة كمسألة ثانوية -عندما نتذكر التفكير فيه من الأساس”.
هذا التشخيص يخص المملكة المتحدة، الدولة المتقدمة صناعياً بقدر ما هي متقدمة أكاديمياً. وهو جدير بتحريض التأمل في الدول التي تصارع مع الأمرين، وتحاول فقط أن توفر الوظائف لشبابها وتحقيق حدّ أدنى من إمكانية العيش الأساسية، ومنع تكويناتها الاجتماعية-الاقتصادية من الانهيار.
هنا في الأردن، كانت علاقة المهن اليدوية (الصنعة) بالعمل متغيرة وأصبحت إشكالية. في وقت ما، في مرحلة بناء البلد، ساد توازنٌ معقول ما بين "المتعلمين”، الذين يتخرجون من الكليات والجامعات للعمل في مهن التعليم والهندسة والإدارة، و”الحرَفيين”، الذين يعملون في النجارة والحِدادة والكهرباء والإنشاءات وما شابه. وكان "المتعلمون” يذهبون ليعملوا في الدول الشقيقة المحتاجة إليهم بشدة، ويحوّلون النقود لأهلهم الذين يبنون وينفقون، فيشغَّلون الحِرفيين والتجار الصغار والكبار، ويعمل الجميع فيتحرك السوق، والكل يشغّل الكل والبنية التحتية العامة تنهض.
في تلك الأوقات كان كل الذين يبنون ويشتغلون أردنيين تقريباً. وكان "القصّير” و”حداد الطوبار” و”المواسرجي” و”عامل البناء”، من بين آخرين، يكسبون جيداً – بل ولديهم فرصة الاغتراب وكسب المزيد. وكانت مهنة "معلم المدرسة” جيدة دخلاً، ومكانة وفرَصاً. وكان المهنيون يتأهلون بلا معاهد، ويتعلمون المهنة من الآباء أو في الورش من "المعلّمين” الحِرفيين.
ثم تغيّرت تركيبة العمل والإنتاج كلها، من دون أن تواكب التغير خطط متبصّرة تتعقب الآليات تستشرف المستقبل. لم تُستغلّ تحويلات المغتربين لإنشاء بنية إنتاجية قادرة على إدامة نفسها واستيعاب قوة العمل إذا شحت مصادر العمل والدخل الخارجية. لم تُنشأ بنية صناعية مميزة، أو زراعية أو سياحية أو خدمية.
تفاخرنا –مثل بريطانيا، مع الفارق- بالجامعات ومخرجات التعليم، فقط ليتراجع التميُّز الآني للتعليم لمختلف الأسباب. ولم يعد الذين كانوا يحتاجون متعلّمينا في بلادهم بعد أن تعلم مواطنوهم وأنشأوا جامعاتهم، كما يجب أن يكون متوقعاً. وتكافلت أسباب، منها "التكبر”، وقلة عناية المخطّط، وقصر نظر القطاع الخاص، للتقليل من شأن المهن اليدوية والفنية والإنشائية، وأصبحنا مستوردين للمهنيين بينما يبقى أولادنا بلا عمل. وترسخت ثقافة من "التكبُّر” عن المهن اليدوية في الثقافة، وفكرة أن الحرَفي "جاهل غير متعلِّم”، ولا يكسب كثيراً أيضاً، بينما لم يعد "المتعلَم” يجد عملاً ولا دخلاً ولا فرصة للعمل في الخارج.
والعلاقات تنطوي على مفارقة. حاول أن تعثر على حِرَفي لإصلاح شيء في بيتك، ويغلب أن يكونَ غير أردني، وسوف يتقاضى منك أجوراً تجعلك تتساءل عن وجاهة فكرة ازدراء الصناعيين والفنيين. وحاول أن تدرّس أبناءك في جامعة، إلى أعلى مراتب التعليم، ويغلب ألا يجدوا عملاً بشهاداتهم، أو ألا يكفي ناتج عملهم لبدء عائلة وحياة مستقلة آمنة.
سوف ينشغل الفرد طويلاً في تحليل الأسباب والكيفيات التي جعلت المهنيين الأردنيين –الذين يقلّون- و”المتعلمين” الأردنيين غير قادرين على إيجاد مكان مريح نسبياً على الأرض، لا هنا ولا "هناك”. لكنّ المخطّطين معنيّون، وجودياً، باستكشاف أسباب بقاء التأهيل المهني ثانوياً، من حيث المكانة، والاهتمام، والجدوى العمليّة لمنتسبيه.
ينبغي أن يكون "المهني” متعلماً أيضاً –ولِمَ لا؟ سوف يقرأ ويكتب ويعرفُ جيّداً ما يجري كما ينبغي، بالتعليم المدرسي الجيد ثم التحوّل إلى تدريبٍ مهني محترِفٍ وعالٍ يوازن بين المعرفة العامة والمهنية في معهد محترم. وسيكون ذلك في سياق خطة محكمة توازن بين المهنيين والأكاديميين، الضروريين بنفس المقدار لأي بلد لا يريد أن يختل وظيفياً.
وإذا كان القطاع الخاص يريد أن يكون محترفاً ووطنياً، فسوف يستثمر في تدريب الشباب الأردنيين الذين يشتغلون معه لتنمية رأس ماله، ويشارك في التخطيط ويعرض متطلباته ودعمه. وإذا سارت العملية كما يجب، فستغير النتائج الفكرة الاجتماعية عن المهنة. وسوف يتدخل الكسب وفرصة العمل لتقيم علاقة المهنة اليدوية مع الأكاديمية، حيث المهني لا يقل ضرورة وتميزاً في ما يبرع فيه -ولا يعرفه "الآخر” ولا يستغني عنه.