جفرا نيوز -
جفرا نيوز- كتب علاء الدين ابو زينة
في لبنان الشقيق، لا تعاني وسائل الإعلام عوزا في التصريحات والمقابلات. سوف تظهر على إحدى الشاشات إذا كنت نائباً، أو عضوا في فصيل، أو طائفة، أو موظفا في الحكومة، أو رجل دين، أو صحفيا، أو حتى مشاركا في احتجاج أو شاكيا من مشكلة شخصية.
والكل يشخصون نفس الأمراض: الفساد، وفشل الدولة، والفئوية، وغياب حكم القانون. ويجمع الكل على الحل: تفكيك نظام الطائفية والمحاصصة، وانتماء الجميع إلى الوطن. ولكن، لا بد أن يذكر الجميع عند نقطة ما أنهم لا يقبلون استبعاد طائفتهم أو حزبهم من الحكومة. وسوف يعترض الكل على إعطاء الحقيبة الفلانية للحزب الآخر أو الطائفة الأخرى. وعندما يطالب الكل بحكومة من التكنوقراط الاختصاصيين غير الحزبيين، فإن الجميع يريدون أن يكونوا من بين المختارين على أساس الكفاءة، أشخاص –ويفضل أغلبية- من طائفته أو حزبه. ولا يستطيع مُكلف بتشكيل حكومة كفاءات أن يقترح اسماً لحقيبة من دون استشارة وموافقة الجميع. والكل هناك: اللهم نفسي.
يقول لبنان القصة نفسها، وإنما بكثافة صادمة. عندما يفشل أي بلد/ نظام حكم في الوفاء بوعود الأمن الاجتماعي والاقتصادي لمواطنيه وضمهم في مشروع وطني واعد، فإنهم ينفضون ويهرعون لمحاولة الاحتماء بهويات تصغر حتى تصل إلى الفرد، الذي يصبح "دولة” -بفلسفة وغايات ومصالح. وسيأتي الحل في هذه الحالة فقط من التدخل الإلهي، أو ولادة نبي ينجو من الاغتيال السياسي -وقد ولّى زمن الأنبياء.
على طريقة الجَمل الذي وقع، أو الكعكة التي ليس لها صاحب، تكثر السكاكين والمتصارعون على الحصص من الخارجيين. وعلى صغر لبنان، يُزايد الأقوياء العتاة ويمكرون ليضموه إلى أملاكهم. ولأن لبنان يفشل في أن يتماسك، فإن كل طرف فالت فيه يبحث عن راع خارجي يقويه في الخصومة ضد مواطنيه، ووطنه. وآخر ما يريده الغرباء الجشعون هو توافق اللبنانيين على شيء وطني، ولذلك يمولون شراء الإرادات لضمان إملاء الشروط والمواقف على الأتباع المحليين. وتنغلق الدائرة.
الآن، يشكل لبنان ساحة لأسوأ الصراعات الكبرى: بين أميركا وإيران؛ وبين السنة والشيعة؛ والمسيحيين والمسلمين؛ والكيان الصهيوني والقضية العربية. ويبدو الأمر كما لو أن حسم لبنان لواحد من أطراف هذه الصراعات هو بيضة القبان والمعركة النهائية. وذلك يضاعف فقط وجع لبنان وشعور مواطنيه الأفراد بالعجز أمام هذه القوى الطاغية التي تعبث بالمصائر. والمفارقة الكبيرة في قصة لبنان أنه يبدو البلد الوحيد الذي ينطوي على إمكانية لتهديد أمن الكيان الصهيوني، بينما يفعل الكل تقريباً –ومنهم العرب- كل شيء لتأمين هذا الكيان.
الحل، من وجهة نظر قسم من اللبنانيين هو الخروج من هذا الصراع والانتباه للمصلحة الذاتية، كما يفعل الجميع تقريبا. وهو في النهاية ليس حيادا بقدر ما هو اختيار لمعسكر سائد. والحل، عند آخرين، هو التمسك بالمبادئ وعدم تسليم الإرادة مقابل الخبز، وانتزاع البقاء والكرامة الوطنية برغم كل المتضادات. ولكل من الحلين وجاهته ومنطقته. لكن الاتفاق على واحد منهما مهمة مستحيلة لأن الحوار مقطوع بطريقة ميئوس منها، واعتقاد كل طرف بأحقيته وقوته يلغي إمكانية التنازل أو حتى التفاوض على مشترك.
المشكلة نفسها موجودة –بتعبيرات أخرى- عند معظم العرب: الاختيار بين الإرادة والخبز، والمبدأ والبراغماتية. وفي الطريق المتعثر إلى القرار يفشل الجميع بلا استثناء، لأنهم يخسرون أحد الشيئين في نهاية المطاف. وربما يتعلق الأمر أخيرا بالهوية التي ضاعت ويجري البحث عنها بالدم والأزمة والصراع. حتى تكون شيئا وتفعل شيئا ينبغي أن تعرف من أنت، وماذا تريد. ولم يعد العرب يعرفون على أي مستوى، من الأقطار إلى الأفراد، من هم وماذا يريدون. لقد ضيعوا -أو جردوا من- الهوية الواضحة الكبيرة المكتوبة في كل مكان عربي بالحروف التي يفهمها الجميع.
الآن، يستطيع كل واحد أن يصرح بصوت مختلف –وإنما متناقض وبلا هوية- مدعيا سلطة التحدث باسم الجميع مع تفويض. والمواطنون ضائعون والجميع بلا سند، حتى مع الاستجارة بالطائفة والحزب والعشيرة والعائلة وبالغرباء، ضد مواطنيه ونفسه. والصورة النهائية عائلات صورية، كل فرد يفكر لنفسه، ويخطط لوحده وينافس أشقاءه ووالديه. وفي النهاية الكل خاسرون وبلا هيبة. وهو كله مكثف، بصلافة موجعة، في لبنان.