من منازلهن.. خياطات اردنيات يعشن شغف الأقمشة والألوان
الخميس-2020-09-10 09:01 am
جفرا نيوز -
جفرا نيوز - من بين الخيوطِ والأسلاكِ وأكوام القُماشِ المتراميّةِ هُنا وهُناك، تروي الخياطاتُ قصصهنَ مع هذه المهنة، حيث امتزج ميولهنَّ وحُبهنَّ للابتكار، بالتحدي والعزيمة، فاخترن طريقهنَ للعمل من منازلهنَّ ورفضن أي عمل يبعدهن عن آلات الخياطة.
هذا التقرير يعرض مجموعةً من قصص خياطاتٍ تحدّيْن عزوف الناس ونظرتهم لمهنة الخياطة، وتوجه غالبيتهم للأسواق وشراء الملابس الجاهزة، يروين تجاربهن في الخياطة وتعلقهن بها.
واقع مهنة الخياطة
"بات يقتصر عمل الخياطات على التقصير والترقيع والتطويل”، تقول الخياطة وعد الرفاعي، ملخصة حال عمل الخياطات في الوقت الراهن في الأردن، في ظل توجه الناس إلى شراء الثياب الجاهزة، فمن المعروف أنَّ التفصيل غالي الثمن، ما يجعل الشراء من السوق فكرةً محببة، غير أنها "افتقرت للابتكار عند الأشخاص الذين لا يملؤهم الشغف بممارستها”، وفقا للرفاعي التي ترى أيضا أن وجود المصانع أثَّرَ على خياطي وخياطات المنازل الذين يلجأون لتفصيل الملابس التي عزف الناسُ عنها وبدأوا يتوجهون للمستوردة.
وتوافقها في ذلك كفاية الجابري التي تؤكد أن عزوف الناس عن التفصيل نتيجة لاعتماد شراء الثياب الجاهزة، نظرا لانخفاض سعرها، وظهور مواقع البيع الإلكترونيّة، إضافة الى توفر القطع بجميع المقاسات في الأسواق، في الوقت الذي كانت النساء الممتلئات وكبيرات السن يلجأن للخياطات لتفصيل ملابسهنَّ قديما، "حتى أنا كخياطة بدأت بالتفكير بشراء القطع من السوق”، بحسب قول الرفاعي.
ويبلغ عدد مشاغل الخياطة المتوزعة في مدن المملكة نحو 2000 مشغل، يعمل فيها حوالي 8000 عامل، بحسب آخر تقريرٍ نشره المرصد العمالي الأردني عام 2017 حول الخياطة، ويشير إلى أنَّ تدهور القطاع أجبرَ الكثيرين على تركه والبحثِ عن عملٍ في قطاعاتٍ أخرى، ممن يرون أنها مهنةٌ قديمة لا جدوى منها أمام تنافس الشركات والمصانع، ورغم من ذَلك، ما زال العديد من الأشخاص يمتهنون الخياطة من منازلهم.
"العمل بحبّ”
تخالف ميرا أبو شعيرة زميلاتها في الرأي معتبرة أن الناس يميلون لتقدير العمل اليدوي ويحبون التفاصيل والإتقان بالعمل، وترى أنَّ المهنة لم تتأثر بشكلٍ كبير بوجود المصانع والشركات المنافسة التي تنتج الكثير من القطع، في الوقت الذي تنتج فيه الخياطة قطعا محددة لزبائنها، ما يمنحها الراحة والمتعة. هذا ما حدا بها إلى تحدي الظروف لتأسيس مشروعها غير التقليدي والذي يركز على الابتكار والتجديد والتنويع، قائلة "بحثت عن بدائل في السوق لأنتج سلعةً مميزةً وغير تقليدية”.
تعكف ميرا على صنع الأرائِك بوسائِد مُطرَّزة، مناظر مصنوعة من القماش، ملابس للأطفال، والكثير من الدمى متقنةِ الصنع، والسلال والمفارش والحقائِب.
أحبت الحياكة فملأت المنزل بمصنوعاتٍ يدويّة، إذ نما حُبُها مع أولِ فستانٍ صنعته لدميتها حين كانت في الثامنة من العمر، أتبعته بخياطةِ سترةٍ لها وهي في الرابعة عشرة من عمرها؛ لتتوقف عن ذَلك بعد انتقالها للعيش مع زوجها في السعوديّة والعمل كمعلمة.
وبعد عودتها إلى الأردن، لم يكن سهلا قبولها العمل كربةِ منزل، ما جعلَ من الحياكةِ ملجأ لها، وبدأ ذَلك حين قرأت تعليقا لإحدى الفتيات عبر موقع "فيسبوك”، تبحث عمن يصنع لها لباسا أعجبها دون أن تتلقى أيَّ رَد، فأرسلت لها أبو شعيرة على استحياء بأنها على استعدادٍ لفعلِ ذَلك.
توضح الأربعينيّة عزمها على دخول تحدٍ مع نفسها، رأت صورة الملابسِ عدة مرات قبل أن تتوجه للسوق وتشتري اللازم لصنعها، وكانت النتيجة كما تريد، إذ لم تصدق الفتاة القطعة التي رأتها بعدَ ذَلك، كانت نسخةً طبق الأصل عن تلكَ الصورة، الأمر الذي دفعَ أبو شعيرة للبحث عن زبائن آخرين يعربون عن رغبتهم بإيجاد خياطات يصنعن لهن الملابس، ثم قررت إنشاء صفحتها الخاصة عبر "فيسبوك” لاستقطاب زبائن أكثر.
"الأمر مُتعب، بتضلك ثانْية رقبتك، لكني ما بيأس، الشغل بعطيني طاقة إيجابيّة ومرات ما باكل بسببه”، هذه الطاقة انتقلت منها لابنتها مريم ذات السبعة عشر ربيعا، إذ دأبت على مراقبةِ والدتها والتعلم منها، وحشو الدُمى أو خياطتها رغم عدم عزمها العمل في هذه المهنة.
تبدأ أبو شعيرة بخيوط القطن التي تُعدُ الأساس، منتقلةً للأسلاك التي تُساعدُ على تحريكِ الدمية بحريّة وتُعدُ من أصعب تفاصيلها، ثم العينين والملابس، والشعر الذي تضطر للسفر الى عمان لشرائه، فهوَ غيرُ متوفرٍ في إربد حيث تقيم، مشيرة إلى صعوبة إيجاد ما تحتاجه من مواد "كثير صعب تلاقي الأغراض اللي بدك إياها”.
وتتحدى أبو شعيرة الانتقادات إلى جانب صعوبة العمل، إذ تسمع دائما انتقادات من (يا الله طولة بالك)، (لو مكانك ما بعمل هاي الأشياء)، (لو بوخذ مليون دينار ما بعمل هالشي)، غيرَّ أنَّ إجابتها الدائِمة تتلخص بأنها تحبُ ما تقوم به، إذ أنها تُعامل القطع بين يديها وكأنها أطفالها، تشتري لهم أفضل أنواع (الشامبو) وتضع لها بعناية مساحيق التجميل، وتوصي زبائنها برعايةِ الدمية والحِفاظِ عليها.
لم تتوقف أبو شعيرة هنا، بل قامت بترخيص مشروعٍ لها يُعنى بحياكة ملابس الأطفال بمختلف أنواعها ولمختلف الأعمار، إضافةً للدمى وكاريكاتير الشخصيّة الذي يشبه الأطفال، قائلة "من شغفي بالحرفة إذا شفت صورة بشتغلها زي ما هي، بتحدى حالي حتى أطلّع المنتج يعجب الزبونة
100 %”، وتشعر بالانزعاج حين ترى عملا غير متقن، تعرف أنَّ صاحبته لم تبذل جهدها فيه، "القطعة اللي مش مشغولة بحب بتبيّن”.
"يا ريت أرجع أخيّط”
26 عاما قضتها كفاية الجابري خلف ماكينة الخياطة، قبلَ أن يثنيها الديسك في ظهرها، والتجلط في قدمها من متابعتها لهذا العمل.
في إحدى غرف المنزل، انتصبت آلة خياطةٍ قديمة تحيط بها عدد من لفافات الخيوطِ الملونة، وعلى طاولةٍ قريبةٍ منها توزعت بقايا قطع قماشٍ وملابس للأطفال والكِبار، تستذكر الخمسينيّة صورة والدتها وشقيقتها اللتين لطالما سرقت بقايا وقتهما لتتعلم منهما هذه المهنة، وتصنع التنورة والفستان والبنطال وسط سعادةٍ غامرة، لقد وجدت في بداياتِ حملها بأحد أطفالها ما ترغب بفعله!
لم يرق لزوجها عملها وتصدى لشغفها بكل الطرق، ما دفعها للتسلل خارج المنزل لدورات الخياطة، مستفيدةً من سفره الدائِم وابتعاده عنها، ثم توقف عن معارضتها حين رأى تعلقها بالخياطة.
تقول الجابري إنَّ "أطفالها لطالما كانوا مميزينَ بينَ أقرانهم، فهم لا يرتدونَ إلا ما تخيطهُ والدتهم، التي تكفلت بتحضير جهاز العرس الخاص ببناتها وقت زفافهن، تبع ذلك صنع الملابس لأحفادها، ما جعل منزلها معلَما بارزا في مخيم البقعة يزورهُ الناس لطلبِ الملابس، ويوصون لعائلاتهم في كندا وأميركا والكويت والسعوديَة ومصر”.
"راح أموت وأنا أم أحمد الخياطة”، عبارة تلخص مسيرة عمل الجابري التي تروي رحلتها التي بدأت بخياطة الفساتين والأثواب، مرورا بالبناطيل والأزياء المدرسيّة، والملابس التقليديّة والتطريز، ظلَت تُراقب الخياطات وتتعلم منهن، وتسهر حتى طلوع الفجر تخيط القطعة تلو الأخرى، وتنجز 3-4 قطع يوميا. آلتها ملأت عليها حياتها، وشعرت أن لديها ما تفعله، لم تكن مجرد مهنة، إذ خاطت بحبٍ وشغف، رغبت برؤية سعادة الجميع وهم يرتدون ما تصنعه.
وعلى الرغم من أن أسعار ملابسها تراوحت بين 30 – 40 دينارا، فقد بيعَت بمناطق أُخرى ومع خياطاتٍ مُختلفات، بضعفيّ السِعر. لم تُبال بالنقود بقدر ما أرادت بناءَ علاقاتٍ مع الزبائِن، خاطت للعرائِس، والأمهات، والأطفال "بالشارع لما أكون طالعة وأشوف من لبسي وخياطي بنسى كل التعب، الحارة كلهم لابسين من شغلي! كنت أفرح أفرح كثير!”.
انهالت العروضُ على الجابري من عدةِ مصانع للتعاقد معها، غيرَ أنَّ رغبتها بالبقاءِ قريبةً من أولادها ومنزلها، دفعاها لرفض تلك العروض، لكن تراجع صحتها مع تقدم العمر أضعف إنتاجها وانخفض لقطعةٍ أسبوعيّا، لكنها شعرت وكأنما فقدت جزءا من روحها، وعبثا حاولت التمسك بالصنارة والخيط.
بحثت عن بصيصٍ يرجعها للخياطة، لتجد عبر موقع "يوتيوب” مواضيع متعلقةً بالمهنة التي شابت معها، وتمسكت بها، وتابعت قناةً تلو الأخرى، بدت سعيدة وهي ترى النساءَ يخطن، كان ذَلِكَ كُلُ ما تبقى لها بعد 26 عاما في العمل، "يا ريت بقدر أرجع أخيّط زي زمان”.
من الإعلام إلى الخياطة
"بتصوّر إني ممكن بيوم أترك الإعلام وأروح للملابس، إشي كتير ممتع صراحة”، هكذا تصف طالبة الماجستير في كلية الإعلام بجامعة اليرموك وعد الرِفاعي تجربتها.
ولدت العشرينيّة في أُسرةٍ جميع نسائها مولعات بالخياطة، فهي من وجهة نظرهن، المهنة الطبيعيّة للمرأة، إنها تمثل الحياء والأُنوثة وتصبح بعدها الفتاة قادرةً على تأمين مستقبلها بعد الزواج، لكن الرفاعي تعلقت بها خلال دراستها بكالوريوس الإذاعة والتلفزيون، "حبيتها لأني فعلا بحبها”.
وتعود الرفاعي بذاكرتها للوراء وتروي أنها كأي طفلةٍ في الـ13 من عمرها رغبت بحصول دُماها على المزيد من الملابس، فما كان منها إلا أن صنعتها بنفسها، رأت خالاتها بأن ابنة أُختهن ورثت المهنة، ما دفعهّن لتشجيعها.
طافت الفتاةُ محال الملابس برفقة أمها التي كانت تختار القماش المُناسب لصناعة الملابس، فقد كانت الأخيرة خيَّاطةً ماهرةً بشهادةِ ابنتها التي لطالما عادت للمنزل مستعينة بأدوات والدتها ومهاراتها التي تمضي يومها بين القص والقطع والتقصير من جهة، والتطويل وفكِّ الظهرِ والأكتاف من جهةٍ أُخرى، حتى تحصل على ما تود ارتداءه.
تتعمَّد الرفاعي اختيار القطع رخيصة السعر من "سوق البالة” حين لا تجد القماش المناسب لملابسها، فمهما كانت الملابس من (البالة) كبيرة الحجم أو غير مناسبة تتحوَّلُ بين أناملها لقطعةٍ مميزةٍ تجعل الآخرين يلحّونَ عليها لخياطة الملابس لهم.
شكَّلت الملابس المستعملة رسالةَ لها، رغبت بإخبار الجميع حول كيفيّة صنع ما يرغبون به دون إهدارٍ ماديّ أو إنفاق الأموال على الملابس بتكلفةٍ عالية، السبب ذاته الذي منعها من ربطِ الخياطة بتقاضيها لأجرٍ مُعيَّن إذ ترى أنَّ ذَلك قد يسلبُ منها حبها للمهنةِ في الفترةِ الحاليّة، ترغب بالعمل دون ارتباطٍ ماليّ، بدافع الحبِ فقط.
ولا تنسَى الرفاعيّ حينَ حوَّلت فستانا كلاسيكيا يعود لستينياتِ القرن الماضي إلى تحفةٍ فنيّة يمكن ارتداؤها، كانت والدتها منبهرة بعملها، "كثير عجبها، انصدمت، قالتلي انو أحلى شي بعمله وأشادت فيه”، بدا هذا كانتزاعِ اعترافٍ منها بموهبتها.
الرفاعي تتفقد مواقع التواصل الاجتماعيّ كثيرا بحثا عن تصاميم جديدةٍ تلهمها، تتفقد "الماليكان” الموضوع في غرفتها تارةً والملابس المعروضة عبر الإنترنت تارةً أُخرى، بحثًا عن أفكار؛ لتخيطها خلال يومٍ أو أُسبوع "يمكن لإنه بس حُب مش عمل كنت بنتج قطعة، لإني مش مجبورة ع الإنتاج”.
تعد الخياطة ملجأ لتفريغ الضغط لها، لكنها تمارس بطبيعة الحال عملا في اختصاصها، إذ عملت كمعلّقةٍ صوتيَّةٍ، إضافةً إلى عملها في برامج لتدريبِ اللاجئين السوريين، وفي خضم ذلك تخيط وتحيك ما يروق لها، "يعني كلما كان عندي ضغط حتلاقي عندي انتاج”.