الإفتاءُ ( الفقير ) علماً ! اسْتحلال الإضراب عن التدريس تسرّعاً
الخميس-2019-09-23

جفرا نيوز -
جفرا نيوز - كتبه الشيخ سعيد نواصره آل عبادي
أقول ابتداءً: نقابة المعلمين لم تستفتِ عالماً واحداً قبل شروعها بالإضراب عن التدريس فيما يبدو لنا ولا غيرها من النقابات تفعل ؛ ولو أنها فعلت طالبةً حكم الدين في مسألة الإضراب فحتماً ستُصْدم بمذاهب العلماء الكبار وأحكامهم فيها؛ الأمر الذي سيجدون فيه حرجاً قوياً ربما يقطع عليهم الطريق الذي خطّوه لأنفسهم فآثروا اتّباع نظرية ( الغاية تبرر الوسيلة ) ولو كانت على حساب مصلحة طرفٍ لا ناقة له في القضية ولا بعير ..
ومع ذلك فإنّ لمن كان أهلاً للإفتاء في مثل هذه القضايا الكبار أنْ يتكلم في بيان الأحكام المتعلقة بالإضراب بعد بذل الجهد لتصور المسألة بشكل حسن، واستيعاب جوانبها وحيثياتها ما أمكن،دون تعجّل أو تساهلٍ أو التعدي فيها إلى ما هو أبعد !
يقول الإمام النووي -رحمه الله- في ( آداب الفتوى) :
"اعْلَم أَن الْإِفْتَاء عَظِيم الْخطر كَبِير الْموقع كثير الْفضل لِأَن الْمُفْتِي وَارِث الْأَنْبِيَاء صلوَات الله وَسَلَامه عَلَيْهِم وقائم بِفَرْض الْكِفَايَة لكنه معرض للخطأ، وَلِهَذَا قَالُوا الْمُفْتِي موقّع عَن الله تَعَالَى"
والفتوى متى افتقرت إلى ضوابطها الفقهية المؤصلة عند أهل العلم خرجت ضعيفةً لا تناسب حال المُستفتى عنه ولا حقيقته، ولا تبين مراد الله من الأحكام الشرعية .
فيجب " أن يكون المفتي على علم تامٍّ بالحكم الشرعي المُفتى به، أو على علم بالظنّ الراجح، على أنْ يكون المُفتي قد استنبط فتواه عبر مجموعة من الأدوات التي دوّنها علماء الأصول، ومنها: العلم بالكتاب والسنة، وعلم الناسخ والمنسوخ، وغيرها من سائر أدوات الاستنباط، بحيث يكون قادراً على استنباط الحكم الشرعي من مصدره، شريطة أنْ يتحرّى البحث عن الدليل الأقوى، حيث يراعي في ذلك الثبوت والدلالة، وإلا فيلزمه التّوقّف ".
الإضراب عن التدريس ..
أقول لمن يذهب- متسرعاً- إلى جواز الإضراب شرعاً :
هبْ أنّ الطرف الآخر استقرّ على قراره أو رأيه ، أو لم تكن تنازلاته مرضية للمعلمين ، واستمر على هذا شهوراً .. ؛ أتقولُ – أو ترضى – لأولادنا الانقطاعَ عن الدراسة عدّةَ الشهور ؟ وما حدُّ هذا بظنّك ؟
إنّ الله – تعالى – قد جعل لصاحب الحقّ سُبُلاً إليه ، وما مِنها سبيلٌ واحد فيه ظلمٌ للغير أو فواتٌ لمصالح شرعيّة هامة للأمة ، أو حصول المفاسد العظيمة والأضرار العامّة ؛ ولا أظنّ منصفاً يخفى عليه ما يجرّه أيُّ إضرابٍ للعامل عن عمله من المفاسد والأضرار وسيئ الآثار ، فكيف إذا كان للمعلمين الذين هم الصفوة مِن المجتمع والأخيار ! ؛ ألا يكون العجبُ أكبر والأثرُ أخطر ؟
إنّ العلماء الكبار الذين تكلموا في مسألة الإضراب عن العمل للمطالبة بالحقوق أو زيادة الأجر أرادوا توجيه فكر المسلم إلى أصول شرعية دقيقة تتعلق بحفظ المجتمعات المسلمة ودرء المفاسد عنها ؛ وهذه الأصول مستقاة من نصوص ثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ؛ أذكر منها اثنين ؛ هما مدار الخطاب والنصح والتوجيه .
فأما الأول : فهو حديث عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه - عن النبي – صلى الله عليه وسلم أنه قال : ' إنها ستكون بعدي أثرة وأمور تنكرونها قالوا : يا رسول الله ، فما تأمرنا قال : تودون الحق الذي عليكم ، وتسألون الله الذي لكم' وهو حديث اتفق عليه البخاري ومسلم .
والأثرة : هي الإنفراد أو الاستئثار بالشيء عمن له حق فيه ؛ على قول أهل العلم ؛ والحديث من دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم ؛ فإن ما أخبر به قد وقع من بعض الأمراء والسلاطين والولاة و ( المسؤلين ) ، فانفردوا بحق المسلمين من المال وأسرفوا على أنفسهم في مأكلهم ومشربهم وركوبهم ؛ وغيره من المنكرات .
فبما أمرنا النبي – صلى الله عليه وسلم – عند وقوع ذلك ؟ قال : ' تؤدون الحق الذي عليكم ' ؛ قال أهل العلم : يعني : لا يمنعكم استئثارهم بالمال عليكم أن تمنعوا ما يجب عليكم نحوهم من السمع والطاعة وعدم الإثارة وعدم التشويش عليهم ، بل اصبروا واسمعوا وأطيعوا .
قلت : هذا الأمر النبوي مع من ينفرد بالحق أو المال دون اعتراف منه ؛ فكيف بمن ( يقرّ ) لك بحق أو يعدك بما تريد ؛ ثمّ ( يرجوك !! ) إمهاله لتأدية ما تبقى ؟ هل تتسلط عليه بما لا يستطيع دفعه ؟ ! ، وأقصد – هنا – : الامتناع عن تدريس الطلاب ؛ كوسيلة ضغط فاعلة نتجت عن العلم المسبق أن لا بدائل ولا حلول بيد الطرف الآخر للصعوبة البالغة التي تصل حد الاستحالة !! .
ثم هناك تتمة للتوجيه النبوي الكريم وهو : ' وتسألون الله الذي لكم ' أي : اسألوا الله أن يهديهم حتى يؤدوكم الحق الذي عليهم لكم .
وثمة أمر آخر ألمح إليه ينبغي الاهتمام به ؛ وهو ما ينجم عن الفعل تأديةً وامتناعاً من آثار ٍتكون هي علّة الحكم على ذلك الفعل صحّة ً أوخطأً .
ويبيّنه الحديث الثاني : وهو حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله تعالى عنه – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال : ' لا ضرر ولا ضرار ' ، رواه ابن ماجة في ( السنن)
وذكر اللفظين ( الضرر والضرار ) في الحديث يقتضي وجود فرق بينهما ؛ وأقوال العلم ها هنا كثيرة ؛ وأقربها أن يقال : ( لا ضرر ) بمعنى نفي الضرر عن الأحكام الشرعية ؛ فليس فيما شرعه الله تعالى إلا ما فيه نفع ومصلحة للناس ؛ وقوله ( ولا ضرار ) نهي ٌ للمكلفين عن أي فعل ( تأدية وامتناعاً ) يترتب عليه إلحاق الضرر بالآخرين حتى بعد موتهم ؛ على تأصيل علمي مفصل .
ومن أهل العلم من قال في معنى الحديث : أي : النهي عن أي فعل يترجح وقوع الضرر بسببه ؛ سواء كان وقوع هذا الضرر على المكلف نفسه ؛ أو على الآخرين .
ورأيت الشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين – رحمه الله تعالى - يذهب في التفريق بين اللفظين إلى كون الضرر بغير قصد وأن الضرار يكون بقصد ؛ فلا يترتب على الأول عقوبة مع وجوب رفع الضرر ، ويترتب على الإضرار العقوبة مع وجوب رفعه .
وفي كل الأحوال فإن الحديث ينهى عن إلحاق الضرر بالآخرين بأي فعل ولو كان فيه مصلحة آنية ذاتية بناءً على قاعدة أصولية جليلة تقول : ( درء المفاسد أولى من جلب المصالح ).
وبعدُ ..
ولا يعني ما يتمُّ تقريره من أحكام الإضراب عندهم أنّهم - ومن يتبناها – هم منكرون لِما للمعلمين من حقوقٍ مادّية و معنويّة ، أو أنهم يغضون الطرف عمّا قد يكون ظلماً واقعاً بهم ؛ لكنّ الحديث عن الوسائل المُتّبعة في تحصيل الحقوق أو ردّ الظلم ، وليس وقوفاً مع جهةٍ ضدّ أخرى أو انتصاراً لها بأيّ حال ، فنحن أبناء وطن واحد والواجب تقديم المصلحة العامة لبلدنا ودفع الشّرور عنها ما أمكن لهذا سبيل ولو كان على حسابِ إغماضنا – ولو مؤقتاً - عن مصلحةٍ فئوية ، أو تحمّل ما نراه نوْعاً من الظلم يلحق بنا ، مع الاحتفاظ بحقّ التمسّك بالمطالبات وفق المسالك التي تقينا مزالق الوقوع في الفتن والفوضى والارتباك على مستوى المجتمع الأردني كُلّه ، ولا تُلحق الضرر بأحدٍ منهم لا سيّما إن كانوا هم عدّة المستقبل من أبنائنا الطلبة .
إنّ الامتناع عن تدريس الطلّاب منْعٌ لحقوقهم الأساسية من تربية وتعليم ورعاية ، وهذا يتضمن ظُلماً لهم ، ناهيك عن حدوث المشكلات المتعلّقة بالأسَرة واضطراب أوضاعها النفسيّة والاجتماعية ؛ فإذا كانت نقابة المعلمين ترى في الإضراب وسيلة فاعلة لنيل المكاسب أو دفع ما تراه ظُلماً للمعلمين وبَخْساً لحقوقهم فإنهم بهذا إنما يردّون الظلم بالظلم ؛ والقاعدة الأصوليّة تقول : " الضرر لا يُزالُ بضررٍ مثله ولا أكبر منه ".

