لا عشيرة لفاسد ..!
السبت-2019-01-26 01:22 pm

جفرا نيوز -
جفرا نيوز - كتب : ابراهيم عبدالمجيد القيسي
عن التبلي على الناس، وجرجرتهم الى المحاكم، وتدفيعهم الثمن قبل أن يحكم القضاء عليهم:
قبل عقدين تقريبا كنت تاجرا؛ ووقعت في براثن "الشكّيكة"، أخذوا عن طريقي بضاعة بآلاف الدنانير، وعرضوها في السوق بأقل من نصف السعر، فعلم التاجر المستورد بالموضوع وطار عقله، ثم هاتفني غاضبا: حرقت اسمي وبضاعتي بزباينك "الشكيكة"، هيهم عارضين البضاعة للبيع بسعر محروق، فقلت له اشتريها إذا، وذهبنا الى مستودعهم واستطعنا أن نقنع أحدهم بسعر ما، وما ان وصلت البضاعة الى الشركة، قال لهم التاجر المستورد (هذه شيكاتكم وهذه بضاعتي..حلوا عنا)، فعادوا إلى مكتبي يريدون "الدفعة الأولى" التي دفعوها مع الشيكات، فقلت لهم: في الظروف الطبيعية البضاعة المعادة بعد فترة ما تخسر من قيمتها، فكيف الحال وأنتم "شكيكة" حاولتم تدمير سمعتنا وعلاقتنا مع التجار..حلوا عنا".. فحذروني مرات: سنشتكي عليكم بأنكم سرقتموها من بيتنا، وكنت أسخر من قولهم: اشتكوا؛ بتفكروا هالبلد سايبة وما فيها قانون؟!، ولم أكن أعلم بأن القانون الذي يفهمونه مختلف عن القانون الذي نفهمه، فاشتكوا علينا، ومرت 5 سنوات ونحن نجلس في المحاكم، ليقول القضاء كلمته أخيرا، بتبرئتنا من كل التهم وحكمنا بقضية "استيفاء الحق بالذات"، اعتبرته حكما مشرفا بعد محاولات الابتزاز التي تعرضنا لها من قبل الخارجين عن كل القوانين.. وهي النتيجة الحتمية لكل صاحب حق، تتهاون القوانين في استرجاع حقه من المجرمين..
الهاشتاج "لا عشيرة لفاسد"، الذي انتشر، يتضمن فضيحة مدوية لطبيعة تفكيرنا، التقطه ملتقطو الفرص، وكالوا اللعنات والطعنات للعشائرية، وكأنها عدونا الأول والأخير..حالة خطيرة من التفاعل والتفكير تتأصل كلما حاول المحاولون تهذيبها، وصياغتها في فكرة سياسية مقبولة.
الدولة تسير بعزم وحزم في مكافحة الفساد، هذا ما نفهمه من مسلسل التهرب الجمركي المتعلق بقضية الدخان، وقبل أيام، وحين قامت الحكومة بتوقيف عدة متهمين على خلفية التحقيق في هذه القضية، شاهدنا وقرأنا ردود أفعال متفاوتة، فئة أعجبهم الإجراء الحكومي، واعتبروه خطوة في الاتجاه الصحيح لمكافحة الفساد، وفئة أخرى استهجنته، وعبرت عن استهجانها بطريقة غير حضارية، وفئة ثالثة صمتت وأتشرف بأنني كنت في صميم الصامتين هذه المرة.
في أسئلة الناس وتعليقاتهم حكم مسبق على كل من يتم اتهامه وتوقيفه، يصبح في نظر هؤلاء مجرما ولن ينفعه كل الدهر في أن يثبت براءته حتى وإن أثبتها القضاء، وهذه هي أخطر ثقافة انطباعية، كان وما زال على الدولة ومطبخها السياسي التفكير فيها، فثقافة سيادة القانون ما زالت شعارا مقارنة بثقافتنا الانطباعية، التي تجرم كل من يرد اسمه كمتهم خلال حوار عام او اجراء حكومي حول مكافحة الجريمة والفساد..
شاركني كثيرون في الحديث والتساؤل عن الخطوة الحكومية الأخيرة، وكانوا يذكرون أسماء المتهمين والموقوفين مطلقين حكمهم المسبق، فسألت بعضهم بدوري: ماذا لو كان فلان شقيقك أو ابن عمك أو واحد من أقاربك؟ فيقولون "بمكر" ننتظر حكم المحكمة، فقلت كيف يطلب منك انتظار حكم المحكمة لأنك قريب لأحد المتهمين، بينما الآخرون أطلقوا حكمهم المسبق على المتهمين وقاموا بتجريمهم سلفا؟ هل تتوقعون ما هو شعور أقارب الناس الموقوفين وما هي طبيعة الأفكار الانطباعية التي تدور في أذهانهم؟.
ابن العشيرة سيدافع عن ابن عشيرته ما دامت الأحكام الاجتماعية الاستباقية تطلق بناء على انطباعات، وكلها انطباعات تشيطن العشائرية، وباتت تعتبرها حجر عثرة في وجه الدولة ومستقبلها، بل تعلق على كاهلها كل فساد افتراضي أو وقع فعلا في البلاد، وحين تتلاطم الأمواج الهائجة يصبح التطرف في التفكير ملاذا سهلا، يختصر الطريق على الذين يغيبون العقول في إدارة شؤون الدولة أو في الانخراط في حوارات حول الشأن العام.
سيادة القانون وثقافته، نتيجة ديمقراطية، تحوزها الشعوب كجائزة جراء الالتزام بالنهج الديمقراطي والسير على خطى العدالة الشاملة، ومثل هذه الثقافة وسيادتها ستبقى بعيدة المنال عن مجتمع هذه سمات تفكيره وردود أفعاله، التي يقودها منحاز لفئة أو آخر ناقم عليها، وهذا نمط من التفاعل الاجتماعي سيمهد طريق التطرف في الموقف والتفكير، وهي نتيجة يجب أن يحذر منها من يتولى إدارة الشأن الأردني أو يفكر في مستقبل المجتمع والبلاد.
دعونا من الثقافة الانطباعية والاستغلال للقانون، بأن لا نتسرع في الحكم على الناس، ونحترم القضاء وأحكامه (كما يفعل أي شعب محترم ومتحضر)، فكل شخص منا معرض للنكاية والاتهام و"التبلي"، ويبقى الحكم للقضاء في النهاية، وهو ما يجب أن نؤمن به ولا نستوفي الحق بأنفسنا لأننا في دولة قوية ومستقرة..

