الصراع في حزب الشعب الثوري الأردني بين تياري الطفولة اليسارية والواقعية السياسية
الأربعاء-2018-03-28 01:23 am

جفرا نيوز -
سيرة روائية 6
جفرا نيوز- كتب: محمد داودية
نشأت في بلدة المفرق، مدينة الليالي المقمرة الفريدة التي تتقاطع وتجتمع فيها الطرق الواصلة بين بغداد ودمشق وعمان. كان يجدر ان تسمى الملتقى او المجمّع لا المفرق. بلدة تضم بيسر ورفق، كل الناس وتجعلهم اسرة واحدة.
عام 1948 كانت المفرق مقر القيادة الخلفية للجيش العراقي المقاتل في فلسطين. وكان الزعماء العراقيون: عبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف وشقيقه عبد الرحمن عارف وكبار ضباط الجيش العراقي، معروفين لأهالي المفرق، يتسامرون معهم ويتناقشون وخاصة مع رئيس بلدية المفرق أبو عبده الرجال ورئيس بلديتها اللاحق محمد سلامة الحسبان والد الشهيد فرحان ومحمد عبدالقادر سكر وسعود المعاني وأبو وجدي قطيشات وعلي أبو زيد وعلي الشبيل أبو موسى وعبده الصباغ والشاعر الطرابلسي الليبي حسن غالب حسونة أبو غالب صاحب الديوان الشعري «الغالبيات».
وكانوا يتسلون بلعب الورق وطاولة الزهر، يدخنون الاراقيل بالتنباك العجمي على أبواب متاجر تلك الأيام وخاصة أمام متجر السمانة الشهير لصاحبيه محمود الاحمد العكور وشريكه عمه الحاج نايف الذي كان مع محي طويلة أبو عبده ومحمد كشورة من أوائل متاجر السمانة في المفرق والطبيب-الممرض مارون شباط وسيمون الأرمني واليافاوي محمد الشريف تاجر الحبوب.
حمل العراقيون شهداءهم الاطهار الابرار في حرب عام 1948 من ساحات القتال في جنين وقلقيلية الى مقبرة خاصة بهم، هي اليوم «مقبرة شهداء الجيش العراقي» التي تقع وسط مدينة المفرق حيث يحيطها الأهالي بأقصى درجات التبجيل والاحترام ويزورها السفراء العراقيون وأبناء الجالية وكبار زوار الأردن العراقيين الرسميين.
جيوش العراق وسوريا والسعودية تتحشد في المفرق عام 1956
حدث ان تجمّعت في المفرق عام 1956 جيوش ثلاث دول عربية هي الجيش السوري والجيش العراقي والجيش السعودي من اجل المشاركة في رد العدوان الثلاثي البريطاني الفرنسي الإسرائيلي على مصر. وكثيرا ما كانت تنشب معارك بالايدي بين افراد من تلك الجيوش وهم يتجولون في شوارع المفرق. وشهدت البلدة تحشيدا عسكريا عراقيا اخر عام 1967 بقيادة اللواء حسن مصطفى النقيب المدفون في المفرق.
لم يتمكن الجيش العراقي من المشاركة في الحرب ضد العدوان الإسرائيلي وظل في المفرق حتى عام 1970. ويذكر ان الطائرات الإسرائيلية قصفت جحافل هذا الجيش على طريق بغداد عمان في الرطبة والاجفور والاجفايف والمدهش ان القصف كان يطال سيارات التي تحمل الذخيرة والوقود لان نسق تحرك اسيارات الجيش العراقي كان معروفا للموساد. فسيارة تحمل الذخيرة تتبعها سيارة تحمل الطحين والمؤن تتبعها سيارة تحمل الوقود وهكذا يظل هذا النسق يتكرر عشرات المرات! وكان مما يثير دهشتنا ان الانضباط العسكري العراقي يعاقب منتسبيه المخالفين في الشارع العام وامام الجميع بالضرب المبرح بالحزام العسكري والعصي والضرب بالاقدام !!
كانت في البلدة معسكرات عديدة للجيش وقاعدة جوية بريطانية -قاعدة الحسين الجوية الان- يخرج منها الجنود والضباط الى لعب كرة القدم مع شباب نادي الصحراء او الى زيارة الأصدقاء وارتياد البارات ولعب الميسر في المنازل، فكانت الحياة الصاخبة تدب في المفرق. كما كان فيها أيضا «كامب» ضخم لشركة نفط العراق «الآي بي سي».
تنفرد المفرق بطقس غريب. نهارها هجير وغبار وحرارة مفرطة بحيث لا ترى أحدا يتحرك في شوارعها خلال ساعات الظهر وما قبل المساء. كنا ننام ساعتين الى ثلاث ساعات هي القيلولة التي تمتد الى الساعة الخامسة عصرا. بعد ذلك يهب على المفرق نسيم غربي رطب خلاب فاتن. ليس له مثيل في الكرة الأرضية، يأتي من احراش عجلون وجرش فيخرج الأهالي الى الشوارع حيث تظن ان كل اهل المفرق خرجوا من بيوتهم.
ومن لطائف المفرق وخصائصها ان شبابها وعائلاتها يغادرونها او يهاجرون الى كل اصقاع الأرض لكنهم يظلون على صلة بها لا تنقطع. والسر في هذه الصلة الروحية -كما يعتقد أبناؤها- هو في مائها الذي فيه جاذبية فريدة تشد الأبناء الى صدرها مهما طالت غيبتهم.
شباب المفرق المغتربون في اميركا يلتقون بعد 50 عاما
وحصل ان اتفق أبناء المفرق المهاجرون الى اميركا والتقوا في لاس فيغاس عام 2011 بعد غربة وانقطاع دام نحو نصف قرن. وهم: الاب أميل حداد، توفيق النمري، رياض النمري، الكابتن فراج فراج، فايز عوده، الياس عوابده، الشاعر عيسى بطارسه، ابراهيم مرجي، الشاعر سرحان النمري و فكتور نخو.
كان الشباب يندفعون كل مساء الى طريق جرش، يهربون من الهجير والصهد الى النسمة الرطبة الفريدة. اسراب من الشباب المتحمس الفوار، يتحدثون في كل شيء، في السياسة والجنس والشعر وتحرير فلسطين والجزائر والوحدة العربية وحزب البعث وحركة القوميين العرب وحزب التحرير وجمال عبد الناصر وصلاح جديد وإبراهيم ماخوس ونور الدين الاتاسي.
كنا نختلس لحظات من جفاف السياسة والمراوحة دون جدوى بين جمال عبد الناصر وحزب البعث الذين اتحدوا معا فافرحونا، ثم انفصلوا ففجعونا وننفلت من المسار اليومي الصاخب الى عوالم الفتيات الزاهية الملونة الرطبة، الى عالم الأنثى السحري البخوري السحابي. عالم الشغف واللهفة والنشوة والخدر وزهو النجاح في اختبار الرجولة المبكرة.
كنا نلتقي الفتيات في الروايات ! والممثلات في الأحلام!
عشت في عالم فتاتي الجميلة، التي كانت تضع، بعد منتصف الليل، شمعة في نافذة الصالون الغربي، علامة الأمان وغياب الديدبان. مما يعني انفتاح بوابات الحصن على ساعات من الفرح والبهجة والنشوة.
كان عَلَيَّ ان اعبر الباب الموارب، متسللا الى الحوش المظلم، في ليالٍ يشترط ان تكون حالكةً، لا قمر فيها. كان القمر عدوي الأول الذي لا أسري فيه.
وما ان اعبر الى الحوش الفسيح حتى يعلو وجيبُ قلبي ويشرع في نوبة من الخفقان والاضطراب، كانت حبيبتي، التي تفور انوثة وغواية، تقفز عليّ وتتعلق بعنقي وهي تضطرب من الفرح، فألقاها برفق وحنو وهي تقول بصوت وئيد خفيض: أكون حمقاء ان افلتك.
فأرد عليها: أكون الأشد حمقا إنْ انا افلت هذه الحورية.
كان ذلك اللقاء الندي يتاح مرتين او ثلاث مرات في الشهر وكان ذلك كثيرا. وكانت فتاتي اكبر عمرا واكثر اتزانا مني، كانت ناضجة، لكنها تصبح طفلة شقية نهمة، عندما تطمئن الى ان المكان آمن تماما. وكثيرا ما كان المكان آمنا.
ترنحْتُ طويلا، تحت وطأة انشطارنا الذي كان قاسيا على قلبي الفتِيّ الغض. كان قلبي في البزوغ. اما هي فقد ظل نشيجها يملأ سماء المفرق كلما غاب القمر وحلّت ليلة اللقاء.
شكّلت لي نهى، نصف التركية ونصف العراقية، واحة الصحراء الغناء، كان أبوها عازف الكمان ومدرب الموسيقى المدني في الجيش، يضطر أحيانا الى المبيت في عمان لإنجاز متطلبات تخريج الدورات التدريبية التي ترافق الموسيقى تخريجها.
حطّت الحورية نهى على المفرق من كوكب آخر جميل، جاء أبوها الى البلدة مبكرا، مع شركة نفط العراق «الآي. بي. سي» واستطاب مناخَها وناسَها واجواءَها الاجتماعية المنفتحة، فسكنها لعدة سنوات.
بريك الحديد يهبُك الجملَ بما حمل
بريك الحديد أبو الهيثم، مناضلٌ عفوي صلبٌ رحبٌ، انتسب مبكراً الى حركة القوميين العرب برفقة شقيقه الأصغر سهيل، الذي اغتال شخصا في عمّان بتكليف من حركة القوميين العرب، فالقي القبض عليه وسجن سنوات طويلة.
عمل بريك في فرع حركة القوميين العرب السري في الضفتين، التي كان شعارها (دم حديد نار. وحدة تحرر ثأر) ولما أعلنت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، كان من أوائل الذين انخرطوا في صفوفها.
تأسست الحركة القوميين العرب في أعقاب نكبة عام 1948 بين أوساط طلبة الجامعة الأمريكية في بيروت ومن أبرز الشخصيات التي شاركت في تأسيسها: جورج حبش واحمد اليماني و وديع حداد من فلسطين. ونايف حواتمة وحمد الفرحان من الأردن. ومحسن إبراهيم من لبنان. وهاني الهندي من سوريا وأحمد الخطيب من الكويت وباسل الكبيسي وحامد الجبوري من العراق وعبد الفتاح إسماعيل وقحطان الشعبي من اليمن.
يتمتع بريك الحديد، الذي عوّض قصر قامته بجسارته، بشهية مفرطة للتدخين مضادة للطعام، ليّن العريكة، ودود، له قدرة على الحركة والسهر، لم اعهدها في احد غيره سواي.
كان ميدانيا يكره التنظير ويمجّه وعندما كان النقاش يحتدم حول مسائل نظرية كان يغادر الجلسة معلنا: خلصوا حكي ونادوني.
ويضيف: منذ ثلاثين عاما ونحن في دوامة هذا النقاش العقيم الذي يترك أحيانا بعض الرواسب الشخصية ولا يقدمنا بوصة واحدة نحو اهدافنا الواحدة.
لا يسعك الا ان تحبه هذا المناضل ذو العينين المتفحصتين اللتين لا تستقران، وليس في وسعك ان تختلف معه مهما حاولت، فقد كان كريما، يهبك الجملَ بما حمل، لو اردته.
دارت دورة الزمن وأعاد التاريخ نفسه. والاسئلة التي وجهتها الى ميشيل، ليلة تسلله الى سوريا، لم تكن عبثا. صار يجب ان اغادر الأردن تهريبا قبل ان يتم القاء القبض عليّ !
في أواخر عام 1979 عقد المكتب السياسي لحزبنا «حزب الشعب الثوري الأردني» اجتماعاته في شقتي الكائنة في تسوية إحدى بنايات جبل اللويبدة، المطلة على شارع الأمير محمد. كانت الشقة عبارة عن غرفة ومطبخ وحمّام، فأرسلتُ زوجتي الى أهلها، واحضرتُ اغطيةً وفرشاتٍ ووسائدَ واشتريت خبزاً وسردينا وعلبَ لحمة «بولبيف اكسترا» وبندورةً وموزا ومرتديلا وتبغا وكبريتا وسكرا وشايا وقهوة.
اسدلنا علينا الستارة واغلقنا الباب
استغرقت الاجتماعات ثلاثة أيام متواصلة افرطنا خلالها في تدخين عشرات علب التبغ وشربنا خلالها عشرات اباريق الشاي وعشرات ركوات القهوة. كانت زوجتي تصر على ان تأتي صباح كل يوم لتهوّي المنزل من سحابات الدخان الكثيفة ولتنظفه من اعقاب السجائر ولتغسل فناجين القهوة وكاسات الشاي المليئة باعقاب السجائر ولتنظف الصحون المليئة ببقايا الطعام.
قالت لي: الرفاق التقدميون والماركسيون يرفعون شعارات تحرير المرأة وانتزاع حقوقها والعمل لنصرتها ومساواتها، وفي التطبيق، هم لا يرفعون عن الأرض الصحن الذي اكلوا فيه!. لا بل هم يطفئون سجائرهم بكاسات الشاي وفناجين القهوة.
نقلت للرفاق رأي زوجتي وقلت لهم انني اوافقها عليه، فتحسن وضع الشقة قليلا.
كنت في الحزب الذي يرأس بريك الحديد ساحة الأردن فيه. كان الحزب فسيلة من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين التي يقودها جورج حبش. ناقشنا جدول الاعمال واختتمنا الاجتماعات وكتبنا التوصيات بخطي المتأني فجاءت الكتابة جميلة ومدعاة اطراء الجميع.
قال احدنا: سنرفع توصياتنا الى الرفاق لنرى رأيهم فيها.
وقال اخر: علينا ان نناقش موضوع «التصفيات» والعنف الثوري.
كنا احد عشر رفيقا، تفاجأ اكثرنا بطرح موضوع «التصفيات». استفسر «الشافعي» عن ذلك وثنّيت على طلبه تقديم توضيحات حول المقصود ب «التصفيات» وضد من بالتحديد سنمارس «العنف الثوري».
اسهب احد الرفاق في الحديث عن النظام السياسي مما يستوجب اعتماد العنف الثوري للرد وتصفية عدد من رموزه !.
قال رفيق اخر تولى استكمال التوضيح: اعتقد ان تصفية احد الرموز او اكثر، لن توقف تغير النظام ولن تحد من نهجه. وأضاف: يجب ان نفكر تفكيرا استراتيجيا، وختم بصوت ارخميديسي صارخ: الحل الثوري الجذري هو في الاغتيالات.
ذهلت. حدقت في الرجل مليا، تفحصته، تبادلت النظرات مع بريك ومع الشافعي لأرى وقع كلامه عليهما.
أنا ارتاب دائما في مطلقي الشعارات الصارخة الذين «يطخّون» في العلالي.
كان الشافعي متحفزا ممتقعا يكاد الغيظ المرتسم على وجهه ان يكون الجواب. وكان وجه بريك محايدا مبهما مغلقا، اكثر ميلا الى السؤال.
قلت: أولا، نحن ناقشنا جدول اعمالنا كاملا وصوّتنا عليه وليس فيه بند «رفع التوصيات» الى جهات اعلى من هذه اللجنة لإقرارها. رفع التوصيات الى الرفيق أبو عيسى الأمين العام للحزب، المقيم في بغداد، هي للعلم فقط.
وطالبت بأن نناقش الإتجاه الطاريء الى ممارسة العنف الثوري و»الاغتيالات السياسية» الذي طرحه احد الرفاق.
قلت: الرفيقان يتحدثان ببساطة عن اغتيالات في صفوف الرؤوس الكبيرة، هل تعلمان ام انتما لا تعلمان، انه لو اغتال حزبُنا، المحسوبُ على الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، رأسا كبيرا، فإنّ ذلك سيؤدي الى سفك الكثير من الدماء.
وقال الشافعي في نبرة تهكمية حرص على عدم اخفائها: هل لديك نظام بديل يا رفيق؟!
وختم الشافعي بجملة صاعقة اثارت ذهول الرفاق: هذه طفولة يسارية. هذه عدمية.
حزب فوق الحزب وقيادة فوق القيادة
طالبت بأن نواصل اجتماعنا لمناقشة التوجه الى القيام بالاغتيالات السياسية. استغرقَنا النقاشُ نحو ساعتين، تم خلالهما استحضار عدة نماذج وتجارب عربية واممية، وتم التصويت الذي جاء ثمانية ضد واثنين مع، وامتناع الرئيس بريك الحديد عن التصويت.
سقط التوجه الى الاغتيالات السياسية وطويت صفحته. ولكن ليس كليا!!
كنت واهما ومخطئا خطأ جسيما بخصوص هزيمة اتجاه اليسار الطفولي في حزبنا، الداعي الى ممارسة الاغتيالات السياسية الكارثية. وتبين لي لاحقا ان هناك حزبا فوق الحزب وقيادة فوق القيادة!!
وقفت مليا عند إشاراتين اثارتا ريبة وشكوك عدد من الرفاق جاهرنا بهما هما: وجود مرجعية للحزب هي التي تقرر لا نحن! واننا مجرد واجهة لا غير!. وان موضوع الاغتيالات السياسية، ليس موضوعا عابرا، ولم يطرح من باب الترف السياسي.
يتبع يوم الأربعاء المقبل

