في الذكرى الخمسين لوفاة جدي سمير الرفاعي .. بقلم: سمير زيد الرفاعي
الخميس-2015-10-13 02:52 pm

جفرا نيوز -
جفرا نيوز- الكتابة عن جيل التأسيس، ليست كتابة عن أشخاص. ولكنها عن قصة الأردن الجميل، الأردن الذي نبت من داخل حجر الصوان، واستمد منه قوته وعزيمته، ونشر رحيقه، ممزوجاً برسالة عظيمة خالدة، هي رسالة آل بيت النبوة الأطهار.
من لهيب الثورة العربية، وكبريائها، نشأ الأردن الحديث، مشروعاً وحدوياً نهضوياً عروبياً في صميمه. وهذا المشروع، استدعى أحرار العرب وسراتهم ونخبهم، لحظة البناء الأولى، خلف قيادة مستنيرة مجاهدة، هي قيادة الملك المؤسس عبدالله الأول، طيب له ثراه. وكان الجيل الأول في السياسة والإدارة الأردنية، يمثل أكفأ قيادات النهضة. ومعظمهم ممّن شغل أعلى المواقع في العهد العثماني وفي عهد المملكة الفيصلية، من مثل رشيد طليع ومظهر رسلان وعلي رضا الركابي وحسن خالد أبو الهوى وعبدالله السراج، وغيرهم، الذين جاؤوا الأردن، يحملون معهم الخبرة والعزيمة والحلم. ولم يلبثوا وأن سلموا الأمانة، لجيل جديد من المتعلمين والمثقفين الأردنيين والعرب، الذين اكتسبوا بالإضافة إلى أحدث علوم عصرهم، الكفاءة والتدريب والإرادة، على أيدي سلفهم، وامتدوا عزيمتهم من قائد البلاد ورائدها الملك المؤسس، طيب الله ثراه.
من الجيل الثاني، جيل التأسيس والبناء والإدارة الصارمة برزت ثلة من الرجالات الكبار، تقدّمهم إبراهيم هاشم وتوفيق أبو الهدى وسمير الرفاعي وسعيد المفتي وآخرون.. وهؤلاء أيضاً، بادروا لإعداد جيل جديد من الأردنيين المسيسين المتعلمين، من مثل سليمان النابلسي وهزاع المجالي وفوزي الملقي وأحمد الطراونة وعبدالحليم النمر وبهجت التلهوني ووصفي التل وأحمد اللوزي وعبدالمنعم الرفاعي وعاكف الفايز وغيرهم الكثير من قيادات مرحلة الخمسينيات والستينات من القرن الماضي، والذين سلموا الأمانة، إلى جيل آخر، من شباب الأردن ونخبه، عملوا تحت لواء الملك الباني الحسين بن طلال طيب الله ثراه، وصولاً بالأردن، إلى هذه اللحظة، ركناً مستقراً وواحة للأمن والازدهار والخير، خلف قيادة ملك الخير عبدالله الثاني ابن الحسين حفظه الله ورعاه.
هذه المقدمة، ليست لغايات الاستعراض التاريخي. ولكنها مدخل لا بد عنه، للحديث عن الأردن ورجالات الأردن الأوفياء، والذين تعاهدوا جيلاً فجيلاً، على الولاء والإخلاص، وحافظوا على عهدهم مع سادة آل البيت "وما بدلوا تبديلاً"، دفاعاً عن الأردن ومصالحه وتحقيقاً لهذا النموذج المشرق.
ومن هؤلاء الرجال الكبار، أقف اليوم عند المرحوم سمير الرفاعي، في ذكرى وفاته الخمسين. ولأنني أحملُ نفس الاسم، انتساباً لهذا الجد المخلص في عطائه وولائه وتفانيه في خدمة العرش الخالد وصاحب العرش المفدى وفي محبة الأردن والأردنيين، فإنني أشعر أيضاً، بأن العلاقة بيني وبينه تتجاوز الاسم والعائلة، إلى حيث أنها علاقة العهد والضمير. ومع حقيقة أنني ولدت بعيد رحيل الجد المرحوم، فإن أمانة الاسم وأمانة العهد، تدفعاني، دائماً، للبحث في هذا التاريخ الحافل بالتضحية والإنجاز. ومثل هذا الإرث، لمن نشأ على هذا العهد، هو مسؤولية وأمانة.
الحديث عن سمير الرفاعي إذن، وعن ذلك الجيل من رجالات الأردن الكبار والمؤسسين، هو حديث عن جوهر معنى المسؤولية ابتداء، والتي امتزجت بالتضحية ونكران الذات والصبر وبالكثير من العناد والإصرار على الدفاع عن القناعات، وعدم القبول بأنصاف الحلول. ولذلك، قدّم السياسيون الأردنيون من رجالات الحكم والإدارة شهداء ودماء زكية، ارتقت إلى ربها راضية مرضية. منذ شيخ شهداء الأردن المغفور له الملك عبدالله الأول، مروراً بالشهيد إبراهيم هاشم إلى سليمان طوقان، إلى الشهيد هزاع المجالي، وليس انتهاء بالشهيد وصفي التل، وشهدائنا من السلك الدبلوماسي، وفي كل صعيد.. ممّن أكملوا جهاد إخوانهم في الجيش العربي والأجهزة الأمنية، واختلطت الدماء الزكية كلها، لتروي ثرى الأردن الطهور.
كان المسؤول الأردني، آنذاك، يدرك ابتداءً، أنه مشروع شهيد. وأن المسؤولية ليست سلطة أو نفوذاً أو فرصة. وإنما هي تضحية وفداء.
وعندما أكتب اليوم عن سمير الرفاعي، جدي، فأنا أستحضر لمعات من هذا التاريخ. وأذكّر بقصة الأردن وسيرته ومسيرته. وهو الرجل الذي رأى النور مطلع القرن العشرين، وواكب نشأة الدولة الأردنية، منذ تباشير فجرها الهاشمي. وعندما التحق بالعمل الحكومي، موظفاً في رئاسة الوزراء، ومديراً لديوان الرئاسة عام 1924، قبل أن يتجاوز الثالثة والعشرين من عمره، في إدارة ناشئة، تستدعي السهر والعمل الشاق والإخلاص، كان مثالاً للجندية الصادقة في مجال الإدارة. وأسهم من مواقعه المتعاقبة، مع أبناء جيله، في بناء جهاز الإدارة العامة الأردنية، القوية والنزيهة والكفؤة، وقد ترك مجالات العمل الأخرى، ونذر نفسه لخدمة وطنه وقيادته، فلم يعرف عن سمير الرفاعي أنه عمل في التجارة أو المال والأعمال، وإنما سخر كل طاقته وعلومه وإرادته للعمل العام وتطويره، وفي معترك البناء والدفاع عن الأردن.
وطيلة مراحل حياته، وفي حكوماته الست، التي تولى رئاستها، كان سمير الرفاعي جندياً مخلصاً، تولى المسؤولية في أصعب اللحظات، واتخذت حكوماته أبرز القرارات واستلهمت رؤى القيادة الشريفة وتوجيهاتها، فتحقق استقلال الأردن، والاعتراف الدولي بالأردن وطناً مستقلاً وعضواً فاعلاً في المجتمع الدولي، ورائداً للعمل العربي المشترك. واستمر الأردن في تصديه للمؤامرة على فلسطين، وتم تعريب الجيش. كما كان على حكوماته، التعامل مع أخطر الأحداث التي استهدفت الأردن كوطن وكيان، ابتداءً من استشهاد الملك المؤسس إلى أحداث عام 1958م الأليمة في العراق الشقيق، وحصار الأردن، إلى تكالب المؤامرات والمخططات الخارجية، على هذا البلد وما يمثله من مشروع ومشروعية... ومن الجدير بالذكر أنه، رحمه الله، كرّس آخر سنين حياته لتأسيس الجامعة الأردنية وترأس أول مجلس لأمنائها.
الحديث عن سمير الرفاعي، وأبناء جيله، المؤسسين المخلصين، الذين نذروا أنفسهم وأرواحهم والغالي والنفيس إيماناً ووفاء للوطن وقيادته، ودفاعاً عن نهضته، هو حديث طويل وذو شجون. وفي جانب كبير منه، هو متروكٌ للمؤرخين والباحثين الثقاة ليقولوا كلمتهم، وينصفوا الأردن من خلال إنصاف رجالاته. ولكنني، هنا، وفي ذكرى وفاة جدي، آثرت أن أبتعد عن التحليل والتفسير وقراءة المرحلة تلك بتعقيداتها وظروفها، وسلمت لقلبي مفاتيح الكلام كي يعبر عن التقدير والاحترام، لتلك الحقبة الاستثنائية، برجالاتها وتضحياتها والجهود الجبارة والدماء الزكية.. ولكي أوجه الدعوة لجيل شبابنا وشاباتنا الواعد، والمبشر بكل الخير، وباستمرارية العهد وتراكمية البناء، أن يقرأ بعضاً من أرشيف البناة الحقيقيين للدولة ومؤسساتها، والأوفياء الأوفياء للعرش ورسالته.
حفظ الله، جلّت قدرته، أردننا الغالي، عزيزاً، قوياً، آمناً، مستقراً، مزدهراً، بقيادة عميد آل البيت الأطهار، جلالة سيدنا الملك عبدالله الثاني حفظه الله ورعاه .

