الذكاء الاصطناعي يخلق أزمة بيئية جديدة
في عصر الذكاء الاصطناعي التوليدي، تتنامى قدرة التكنولوجيا على إنتاج محتوى متنوع من النصوص والصور والفيديوهات استجابة لأوامر المستخدمين، مما يمثل تحولا ثوريا في مجالات عدة.
وفي قلب تلك التقنية، تقبع النماذج اللغوية الكبيرة التي تستخدم معالجة اللغات الطبيعية. يتم تدريب هذه النماذج على مجموعات بيانات ضخمة ويمكن ضبطها لتحقيق رؤى خبيرة في مجالات متخصصة. ومع ذلك، تتطلب نماذج اللغات الكبيرة موارد حاسوبية هائلة للتدريب والاستخدام، مما يستلزم أجهزة وبنية تحتية حاسوبية واسعة النطاق. وهو أمر يثير قضايا استدامة حاسمة، بما في ذلك استهلاك الطاقة والانبعاثات الكربونية المرتبطة بهذه العمليات.
فالثورة الرقمية تحمل تحديات بيئية خطيرة، وعملية تدريب وتشغيل نماذج الذكاء الاصطناعي العملاقة تتطلب قدرة هائلة من الموارد الحوسبية، وتترتب على ذلك زيادة متسارعة في حجم النفايات الإلكترونية الناتجة من التخلص من المعدات المستخدمة في تشغيل هذه الأنظمة.
وقد أدى تطوير نماذج مثل GPT-4 وDeBERTa، بالإضافة إلى تطبيقات الذكاء الاصطناعي التوليدي في مجال توليد الصور والفيديوهات مثل Sora، إلى زيادة الطلب العالمي على الأجهزة الحاسوبية.
مشكلة دون دراسة
ركزت الدراسات السابقة حول الحوسبة المستدامة بشكل رئيس على استهلاك الطاقة وانبعاثات الكربون الناتجة من نماذج الذكاء الاصطناعي. لكن المواد المادية المستخدمة في دورة حياتها والنفايات الإلكترونية الناتجة من الأجهزة القديمة لم تحظ بالاهتمام الكافي.
على سبيل المثال، يبلغ وزن منصة "نفيديا بلاكويل" المصممة لمهام الاستدلال والتدريب ومعالجة البيانات المكثفة لنماذج اللغات الكبيرة حوالي 1.36 طن، مما يجعل الذكاء الاصطناعي التوليدي قطاعا كثيفا من حيث استخدام المواد.
من المتوقع أن تتراوح كمية النفايات الإلكترونية الناجمة عن الذكاء الاصطناعي التوليدي بين 1.2 و5.0 مليون طن خلال الفترة من 2020 إلى 2030
وتشير التوقعات إلى أن القدرة الحاسوبية المثبتة للذكاء الاصطناعي قد تزداد بنحو 500 مرة من عام 2020 إلى عام 2030. هذا النمو السريع في استخدام الأجهزة، مدفوعا بالتقدم السريع في تكنولوجيا الرقائق، قد يؤدي إلى زيادة كبيرة في النفايات الإلكترونية والتأثيرات البيئية والصحية الناتجة من معالجتها النهائية.
ومع الاعتراف المتزايد بأهمية استراتيجيات الاقتصاد الدائري من قبل الوكالات الدولية مثل وكالة الطاقة الدولية وبعض الشركات التقنية الرائدة، التي تركز على تقليل المعدات القديمة من مراكز البيانات، وإعادة استخدامها وإصلاحها وإعادة تدويرها، إلا أن هذه الجهود تفتقر إلى تحليل شامل ودقيق للطرق الممكنة لإدارة النفايات الإلكترونية الناتجة من الذكاء الاصطناعي التوليدي.
والآن قدمت دراسة علمية شاملة نُشرت في دورية "نيتشر"، إطارا لتحليل تدفق المواد يعتمد على القوة الحوسبية، بهدف تحديد حجم المدخلات والمعدات التشغيلية وحجم المعدات التي انتهى عمرها الافتراضي في مراكز البيانات التي تدعم الذكاء الاصطناعي التوليدي.
كميات مليونية
ووفقا لتحليلات هذا الإطار، من المتوقع أن تتراوح كمية النفايات الإلكترونية الناجمة عن الذكاء الاصطناعي التوليدي بين 1.2 و5.0 مليون طن خلال الفترة من 2020 إلى 2030، اعتمادا على تطور هذه التقنيات وسرعة انتشارها. وقد تتفاقم هذه الكميات في ظل قيود الاستيراد الجيوسياسية على أشباه الموصلات وارتفاع معدلات تجديد الخوادم في سبيل تقليل التكاليف التشغيلية.
تشير التقارير العالمية إلى أن النفايات الإلكترونية المرتبطة بالأجهزة الإلكترونية الصغيرة مثل الحواسيب الشخصية تبلغ 4.6 مليون طن حسب إحصاء أجري في عام 2022
وقد أجرى فريق من الباحثين تحليلا يهدف إلى قياس حجم النفايات الإلكترونية المتوقعة من مراكز البيانات المخصصة لدعم احتياجات نماذج اللغة الكبيرة، متناولين الفترة الممتدة من 2020 إلى 2030 وفق سيناريوهات متعددة لمستقبل الذكاء الاصطناعي التوليدي. كما استخدم الباحثون خادم "نفيديا آتش 100" كنموذج قياسي لتحليل القوة الحسابية اللازمة وتقدير حجم البنية التحتية المادية المصاحبة، مع أخذ التحسينات التكنولوجية المتوقعة في الاعتبار باستخدام قانون "مور".
شملت الدراسة أربعة سيناريوهات مختلفة ومتفاوتة. ويعتمد السيناريو المحدود على اتجاهات نمو تاريخية بنسبة نحو 41 في المئة بين 2022 و2023. ويفترض هذا السيناريو أن نمو إنتاج شرائح الذكاء الاصطناعي والخوادم سيكون محدودا، مما يعني أن التطبيقات المعتمدة على الذكاء الاصطناعي التوليدي ستنمو بوتيرة بطيئة. في هذا السيناريو يقدر أن تكون النفايات الإلكترونية غير المعالجة الناتجة من مراكز البيانات بين 2023 و2030 نحو 1.2 مليون طن.
أما السيناريو العدواني، فيفترض نموا سريعا في استخدام النماذج اللغوية الكبيرة وانتشار تطبيقات الذكاء الاصطناعي التوليدي بشكل واسع. ويفترض أن يصل معدل النمو السنوي المركب لاحتياجات الحوسبة إلى 136 في المئة. سيصل إجمالي النفايات الإلكترونية غير المعالجة في حالة السيناريو الأخير إلى 5.0 مليون طن بين عامي 2023 و2030، مما يعكس النمو السريع في استخدام الخوادم القوية.
ثمة سيناريو متوسط بين السيناريو المحدود والسيناريو العدواني، حيث من المتوقع أن يكون هناك انتشار لتطبيقات الذكاء الاصطناعي التوليدي، ولكن بمعدل نمو متوسط. في هذا السيناريو، يُتوقع أن يصل معدل النمو السنوي المركب إلى نحو 115في المئة. كما يُتوقع أن تصل النفايات الإلكترونية إلى 3.0 مليون طن بين 2023 و2030.
فيما يفترض السيناريو المحافظ أن استخدام الذكاء الاصطناعي التوليدي سيكون محدودا بتطبيقات معينة، مما يؤدي إلى نمو أبطأ في احتياجات الحوسبة، متوقعا أن يكون معدل النمو السنوي المركب نحو 85 في المئة. وستصل كمية النفايات الإلكترونية غير المعالجة إلى نحو 1.8 مليون طن بين 2023 و2030.
ووفقا للبيانات الحالية، تشير التقارير العالمية إلى أن النفايات الإلكترونية المرتبطة بالأجهزة الإلكترونية الصغيرة مثل الحواسيب الشخصية، ستبلغ 4.6 مليون طن حسب إحصاء أجري في عام 2022، ومن المتوقع أن تصل إلى 43.2 مليون طن بحلول عام 2030.
وفي السيناريوهات الأربعة، يُتوقع أن تساهم الخوادم المستخدمة في الذكاء الاصطناعي التوليدي في زيادة هذه الكمية بمقدار من 3 في المئة إلى 12 في المئة، وهو ما يوضح الحجم الكبير للنفايات الإلكترونية الناتجة من النمو السريع لتطبيقات الذكاء الاصطناعي.
الأشخاص في البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل، خصوصاً الأطفال، هم الأكثر عرضة للأخطار بسبب نقص القوانين والبنية التحتية المناسبة لإعادة التدوير
في كل عام، يُتخلص من ملايين الأجهزة الإلكترونية والكهربائية بسبب تعطلها أو تقادمها، حيث تُرمى هذه الأجهزة المهملة لتصبح نفايات إلكترونية، مما يشكل تهديدا كبيرا للبيئة وصحة الإنسان إذا لم تتم معالجتها والتخلص منها بشكل مناسب، حسب منظمة الصحة العالمية
وتشمل مصادر النفايات الإلكترونية الشائعة أجهزة الحاسوب، الهواتف المحمولة، الأجهزة المنزلية الكبيرة، والمعدات الطبية.
سنويا، تتم إعادة تدوير ملايين الأطنان من النفايات الإلكترونية باستخدام تقنيات غير صديقة للبيئة، وقد تُخزن هذه النفايات في المنازل والمستودعات أو تُتخلص منها بشكل عشوائي أو تُصدر ويُعاد تدويرها في ظروف سيئة. وعندما يتم التعامل مع هذه النفايات بطرق غير صحيحة، قد تُطلق أكثر من 1000 مادة كيميائية في البيئة، بما في ذلك سموم عصبية خطيرة مثل الرصاص والديوكسينات والزئبق، ويجعل معالجتها بشكل غير سليم تهديدا للصحة والسلامة العامة.
والنساء الحوامل والأطفال هم الأكثر تعرضا للخطر نظرا إلى طرق تعرضهم الفريدة وحساسيتهم التنموية. وتشير تقديرات منظمة العمل الدولية إلى أن نحو 16.5 مليون طفل عملوا في القطاع الصناعي في عام 2020، وهو القطاع الذي يشمل معالجة النفايات الإلكترونية.
شترستوكشترستوك
مفهوم المصانع الصناعية الحديثة وتكنولوجيا البيانات
والنفايات الإلكترونية أسرع أنواع النفايات الصلبة نموا في العالم، حيث تزداد بمعدل ثلاثة أضعاف سرعة نمو السكان. في عام 2019، تمت إعادة تدوير أقل من ربع هذه النفايات عالميا، رغم أنها تحتوي على موارد قيمة يمكن إعادة استخدامها.
ورغم ذلك، فإن الأشخاص في البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل، خصوصا الأطفال، هم الأكثر عرضة للأخطار بسبب نقص القوانين والبنية التحتية المناسبة لإعادة التدوير. وعلى الرغم من اللوائح الدولية التي تحظر نقل النفايات الإلكترونية عبر الحدود، فإن هذه النفايات تستمر في التوجه بشكل غير قانوني إلى هذه البلدان.
تتجاوز مشكلة النفايات الإلكترونية الذكاء الاصطناعي، إلا أن هذه التقنية المتنامية تمثل فرصة لإعادة تقييم كيفية التعامل مع النفايات الإلكترونية ووضع الأساس لمعالجتها بشكل فعال.
الخبر الجيد هو أنه هناك استراتيجيات يمكن أن تساعد في تقليل النفايات المتوقعة، من ضمنها إطالة عمر الأجهزة الإلكترونية بالصيانة الدورية التي تساهم في الحفاظ على الأجهزة وضمان استمراريتها لفترة أطول.
أحد الحلول الطويلة الأمد في تقليل النفايات الإلكترونية يكمن في تحسين تصميم الأجهزة بشكل تسهل إعادة تدويرها وتحديثها
فبدلاً من استبدال الأجهزة بسبب الأعطال البسيطة، يمكن إصلاحها وإعادتها الى العمل، مما يقلل الحاجة إلى التخلص منها. كذلك يمكن ترقية بعض الأجزاء في الأجهزة بدلا من استبدالها بالكامل، مثل تحديث الذاكرة العشوائية أو استبدال القرص الصلب بآخر أحدث.
وبدلا من التخلص من الأجهزة القديمة، يمكن تجديد مكوناتها واستخدامها في تصنيع أجهزة جديدة أو تحسين الأجهزة القديمة. على سبيل المثل، يمكن إعادة استخدام الأجزاء مثل الشاشات، اللوحات الأم، وحدات المعالجة المركزية، والبطاريات من الأجهزة القديمة في تصنيع أو تجديد أجهزة جديدة. تساهم هذه العملية في تقليل الحاجة لاستخراج المواد الخام وإنتاج أجهزة جديدة من البداية. بالإضافة إلى ذلك، يمكن إعادة تصنيع المكونات التالفة أو القديمة مثل المعادن الثمينة (النحاس، الذهب، الفضة) من الأجهزة المهملة، مما يساهم في تقليل الهدر وزيادة كفاءة استغلال المواد المتاحة.
أما أحد الحلول الطويلة الأمد في تقليل النفايات الإلكترونية فيكمن في تحسين تصميم الأجهزة بشكل يسهل إعادة تدويرها وتحديثها. فكلما كان الجهاز مصمما بطريقة تسهل تفكيكه وفصل المواد القابلة لإعادة التدوير عن المواد التي يصعب معالجتها، قل حجم النفايات الناتجة منه. يشمل ذلك التصميم القابل للتفكيك استخدام المسامير بدلا من الغراء لتثبيت المكونات، مما يجعل من السهل فك الأجزاء المختلفة. كما أن استخدام المواد القابلة لإعادة التدوير مثل البلاستيك المعاد تدويره والمعادن النقية في تصنيع الأجهزة، يساهم بشكل كبير في تقليل النفايات. من جانب آخر، يجب أن يتم تصميم الأجهزة بحيث تكون قابلة للتحديث بسهولة، مثل توفير خيارات لتحديث البرمجيات أو ترقية مكونات الأجهزة مثل الذاكرة أو المعالج لتحسين الأداء.
كما يجب تحفيز المستهلكين على إعادة تدوير الأجهزة القديمة بدلا من التخلص منها، بتقديم حوافز مالية للمستهلكين الذين يعيدون الأجهزة القديمة للتدوير أو تجديدها. كما يمكن توفير بنية تحتية فعّالة وسهلة الوصول، تمكّن المستهلكين من تسليم الأجهزة القديمة الى مراكز التدوير المعتمدة دون تعقيدات، مما يعزز ثقافة التدوير ويشجع المزيد من الأشخاص على اتخاذ قرارات مستدامة.