النسخة الكاملة

البنك المركزي الأوروبي يقفز إلى المجهول

الأربعاء-2014-10-08 09:58 am
جفرا نيوز -
فرانكفورت ـ يبدو أن البنك المركزي الألماني يمر بتجربة كبيرة ومحفوفة بالمخاطر. فقد ظلت أسعار الفائدة الأساسية قريبة من الصفر لمدة ست سنوات الآن. وأغرقت السيولة الأسواق المالية. وأفضت إدارة الأزمة إلى تشوهات كبرى في الأسواق، حيث لم تعد البيانات الاقتصادية الأساسية تفسر أداء بعض القطاعات. وقد باتت العواقب غير المقصودة التي ترتبت على هذه السياسة واضحة على نحو متزايد ــ وسوف تصبح ملموسة بشكل متزايد مع خروج بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي من السياسة النقدية المفرطة في التراخي منذ ما بعد 2008. ولا تزال الأزمة في أوروبا بعيدة عن نهايتها، كما تُظهِر البيانات الصادرة في شهري حزيران (يونيو) وأيلول (سبتمبر) عن مجلس إدارة البنك المركزي الأوروبي. ويعكس هذا عاملين: النقص الشديد في الرغبة في تنفيذ تصحيحات أساسية للميزانية العمومية، والتقدم البطيء ــ الذي يكاد لا يُذكَر في فرنسا وإيطاليا ــ في إعادة هيكلة الاقتصادات الوطنية في أوروبا. ومن ثَمّ، فلابد أن ننظر إلى قرار البنك المركزي الأوروبي بمضاعفة الحوافز النقدية باعتباره عملاً يائسا. فقد انخفض سعر الفائدة الرئيسية في البنك إلى 0.05%، وأصبح سعر الفائدة على الودائع سالبا، ومن المفترض أن تعمل عمليات إعادة التمويل الموجهة الأطول أجلاً على دعم الإقراض المصرفي. وعلاوة على ذلك، لابد من إحياء وتنشيط سوق الأوراق المالية المدعومة بالأصول من خلال شراء الأوراق المالية المدعومة بالأصول. والمقصود من كل هذا إغراق الأسواق، وتوسيع الميزانية العمومية لنظام اليورو بنحو 700 مليار يورو (890 مليار دولار أميركي)، والعودة إلى أحجام الميزانية العمومية المسجلة في بداية عام 2012. إن توسيع ميزانية البنك المركزي الأوروبي العمومية والخفض المستهدف لقيمة اليورو لابد أن يساعدا في دفع معدل التضخم في منطقة اليورو في الأمد القريب إلى نحو 2% وبالتالي الحد من مخاطر الانكماش. وللمرة الأولى في تاريخه، يسعى البنك المركزي الأوروبي كما يبدو إلى تحديد هدف لسعر الصرف. وكما كانت الحال بالنسبة لبنك اليابان، فإن القيمة الخارجية للعملة سوف تصبح أداة بالغة الأهمية في إطار نهج استراتيجي جديد. لقد رحبت الأسواق المالية بالقرارات التي اتخذها البنك المركزي الأوروبي مؤخرا. وبعد "التخلص فعلياً من كل قيود معاهدة ماستريخت التي تلزم البنك بمحاكاة نموذج البنك المركزي الألماني"، على حد تعبير ألان جرينسبان رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي السابق، أصبح البنك المركزي الأوروبي جاهزاً لكسر المزيد من المحظورات والمحرمات. ولكن لأي غرض؟ لقد تسبب تعهد البنك المركزي الأوروبي بضمان السندات السيادية التي تصدرها بلدان مثقلة بالديون في إضعاف الرغبة في الإصلاح، وخاصة في بلدان الاتحاد الأوروبي الأكبر حجما، والتي تشكل هياكلها الاقتصادية البالية عقبة تحول دون تحقيق النمو المحتمل، وحيث يجب إتاحة مساحة أكبر للمبادرة الخاصة. إن استعداد البنك المركزي الأوروبي لشراء الأوراق المالية المدعومة بالأصول ينطوي على مخاطر كبيرة بشكل خاص، وهو يخلق عنصراً جديداً من المسؤولية المشتركة في منطقة اليورو، حيث يصبح دافعو الضرائب الأوروبيون في مأزق في حالة الخسارة. ويفتقر البنك المركزي الأوروبي إلى الشرعية الديمقراطية التي تخوله اتخاذ مثل هذه القرارات البعيدة المدى والتي قد تخلف عواقب كبيرة محتملة على عملية إعادة التوزيع، وهو ما يعني ضمناً خطراً أكبر يهدد استقلال السياسة النقدية. الواقع أن البنك المركزي الأوروبي دُفِع بالفعل إلى اتخاذ موقف دفاعي من قِبَل صندوق النقد الدولي، ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، ومحللي الأسواق المالية، والاقتصادات الأنجلوسكسونية في أعقاب مناقشة محتدمة لخطر الانكماش في منطقة اليورو. ولكن ما هو معدل التضخم المناسب في منطقة اليورو، نظراً للركود الاقتصادي القائم بحكم الأمر الواقع؟ وهل يحل النمو الاسمي الأعلى (المدفوع بالتضخم) محل النمو المدفوع بالدين؟ يتعين على أوروبا أن تستهدف نمواً مستداماً غير تضخمي فضلاً عن خلق فرص عمل تنافسية. إن معدل التضخم الحالي عند مستوى 0.3% يرجع إلى الانحدار الكبير في أسعار السلع الأساسية والتعديل المؤلم الحتمي للتكاليف والأسعار في البلدان الواقعة على أطراف أوروبا. واليونان هي الدولة الوحيدة التي تعاني حالياً من معدل تضخم سالب بعض الشيء. بعبارة أخرى، يسود استقرار الأسعار منطقة اليورو. وهذا من شأنه أن يعزز القوة الشرائية وفي نهاية المطاف الاستهلاك الخاص. لقد وفى البنك المركزي الأوروبي بتفويضه في الوقت الحاضر والمستقبل المنظور. ولا حاجة إلى العمل السياسي في الأمد القريب. بل يتعين على حكومات منطقة اليورو أن تتحرك. ولكن أي تقسيم واضح للمهام والمسؤوليات بين الحكومات والبنوك المركزية كان مصيره الهجر والإهمال كما يبدو. والواقع أن تصرفات الحكومات في العديد من البلدان المتعثرة تنتهي إلى تبادل الاتهامات: فكانت "أوروبا"، والبنك المركزي الأوروبي، وألمانيا التي تنتهج سياسة مسؤولة (نسبيا)، كلها كباش فداء. وعلى هذه الخلفية، استسلم البنك المركزي الأوروبي للضغوط السياسية الهائلة، وخاصة من جانب فرنسا وإيطاليا، لتخفيف قيود السياسة النقدية وإضعاف سعر الصرف. ولكن الانغماس في ردود الفعل المنعكسة السياسية المتمثلة في التلاعب بسعر الصرف لخلق ميزة تنافسية لن يفضي إلا إلى إصلاح سريع قصير الأجل في أفضل تقدير. ولن يتمكن من إزالة نقاط الضعف البنيوية التي تعاني منها البلدان ذات الصلة. إن البنك المركزي الأوروبي يتوغل على نحو متزايد إلى مسافات أعمق داخل مناطق مجهولة وغير مأهولة. وفي ضوء التصحيحات غير الكافية للموازنات العمومية في القطاع الخاص والإصلاحات البنيوية المنقوصة، فإن أدوات إدارة الطلب في إطار الاقتصاد الكلي لن تنجح. وبرغم النهج القوي الذي يتبعه البنك المركزي الأوروبي فإن السياسة النقدية تصبح في غياب الإصلاح الاقتصادي البنيوي غير فعالة في الأرجح. الأمر ببساطة أن المزيد من السيولة لن يؤدي إلى إقراض مصرفي أكثر نشاطاً ما دامت الشفافية غائبة عندما يتعلق الأمر بحجم القروض المتعثرة، وما لم تصبح الاقتصادات ذات الصلة أكثر مرونة. ومن المتوقع أن تجلب مراجعة جودة الأصول واختبارات إجهاد البنوك التي يجريها البنك المركزي الأوروبي بعض الوضوح للسؤال الأول. وسوف يتبع ذلك المزيد من الإقراض بشروط مقبولة ــ على افتراض وجود طلب مقابل. ولكن عدم اليقين بشأن مدى ووتيرة الإصلاح الاقتصادي يظل قائما. إن قرارات البنك المركزي الأوروبي الأخيرة، بتركيزها على العواقب القصيرة الأجل، تشير إلى أن السياسة النقدية لم تعد مستهدفة في منطقة اليورو ككل، بل في البلدان المتعثرة فحسب. فقد حلت القرارات المفصلة حسب الطلب محل الاستراتيجية المتوسطة المدى المجدية والمبنية على المبادئ. وسوف تتعقد المشاكل التي يخلقها هذا النهج بفعل تضارب المصالح الحتمي مع السياسة النقدية والذي أشار إليه البنك المركزي الأوروبي ضمناً عندما تولى أدواراً جديدة تتمثل في الحفاظ على الاستقرار المالي والإشراف المصرفي. وسوف يكون استقرار الأسعار أول ضحايا هذا النهج في الأرجح.
© جميع الحقوق محفوظة لوكالة جفرا نيوز 2024
تصميم و تطوير