جفرا نيوز -
بقلم خالد مفلح البداوي
في لحظة صمت بعيدًا عن ضجيج اليوم وتفاصيله المتسارعة يولد الإبداع الحقيقي ذلك الإبداع الذي لا يأتي استئذانًا ولا يُصنع على عجل ولا يُولد في ساحات الضوضاء الصمت ليس فراغًا كما يُخيّل للبعض بل هو حالة امتلاء داخلي تتراجع فيها الأصوات الخارجية ليعلو صوت الفكر وتبدأ رحلة العقل مع ذاته
ليس الإبداع فكرة عابرة ولا ومضة حظ عشوائية بل هو نتاج حوار خفي يدور في أعماق الإنسان حوار طويل لا نسمعه غالبًا لأننا مشغولون بما حولنا أكثر مما نحن منصتون لما في داخلنا هناك في تلك المساحة الصامتة يعمل العقل الباطن بلا كلل يجمع التجارب يرتّب الذكريات يعيد تفكيك الأحداث ويصوغها من جديد دون أن ننتبه.
العقل الباطن هو المخزن الأكبر لكل ما عشناه للألم الذي حاولنا نسيانه للفرح الذي مرّ سريعًا للخوف الذي أخفيناه خلف أقنعة القوة وحتى للأسئلة التي لم نملك شجاعة طرحها وحين يعجز التفكير الواعي عن الوصول إلى حل أو تفسير يتدخل هذا العقل بهدوء لافت لا يصرخ ولا يفرض نفسه بل يقترح فكرة أو يفتح زاوية نظر جديدة أو يرسم طريقًا لم نكن نراه كم من فكرة عظيمة وُلدت في لحظة استرخاء وكم من قرار مصيري جاءنا ونحن على حافة النوم حين خفّ الحارس العقلي وسمح للفكر أن يتحرر.
الإبداع الفكري لا يحب التوتر ولا يزدهر في بيئة الخوف والضغط المستمر هو كائن حساس يحتاج إلى مساحة آمنة وإلى عقل يسمح لنفسه بالخطأ والتجريب دون جلد أو محاكمة ولهذا نجد أن أكثر العقول إبداعًا ليست بالضرورة الأذكى بل تلك التي تصالحت مع ذاتها وفهمت أن الفشل ليس هزيمة نهائية بل محطة ضرورية في الطريق وأن التعثر لا يلغي القيمة بل يكشفها أحيانًا.
في مجتمعاتنا كثيرًا ما نقمع الخيال باسم الواقعية ونكسر الفكرة الجديدة بحجة المنطق ونخضع كل طرح مختلف لمحاكمات مبكرة لا ترحم نطالب الفكرة بأن تكون كاملة منذ ولادتها فنقتلها قبل أن تنمو وهنا تحديدًا يظهر دور العقل الباطن كملاذ أخير كمساحة حرة لا تعترف بالقيود ولا تخضع للرقابة الاجتماعية ولا تلتزم بما هو سائد أو مألوف إنه المختبر السري الذي تُصنع فيه الأفكار الكبيرة بعيدًا عن العيون وبعيدًا عن الأحكام الجاهزة.
الصمت في هذا السياق ليس انسحابًا من الحياة ولا هروبًا من الواقع بل هو عودة واعية إلى الداخل ومحاولة لفهم الذات قبل محاولة تفسير العالم هو لحظة مواجهة صادقة مع النفس حيث تسقط الأقنعة وتنكشف الأسئلة الحقيقية وتبدأ ملامح الفكر في التشكل دون تزويق أو ادعاء.
الإبداع ليس ترفًا فكريًا ولا رفاهية وقت بل هو فعل بقاء في زمن تتشابه فيه الأصوات وتُستنسخ فيه الأفكار وتُعاد فيه العبارات حتى تفقد معناها وروحها في زمن السرعة يصبح التفكير العميق فعل مقاومة ويصبح الصمت موقفًا ويغدو الإصغاء للداخل شجاعة نادرة.
من لا يصغِ لصمته الداخلي سيبقى أسير الضجيج يردد ما يُقال له ويمشي في طرق لم يخترها ويتبنى أفكارًا لم يفكر فيها يومًا وحده من يحترم الصمت ويمنحه مكانته ويدرك أن فيه تُعاد صياغة الوعي وتُختبر القناعات قادر على إنتاج فكر حيّ متماسك وقادر على هز السكون وكسر الجمود وفتح أبواب التغيير الحقيقي.