جفرا نيوز -
في مدينة العقبة، وعلى امتداد ساعات من النقاش المهني العميق، اجتمع رؤساء مجالس فروع نقابة المهندسين الأردنيين ليضعوا واحدًا من أكثر الملفات حساسية على الطاولة: مستقبل صندوق التقاعد. الاجتماع لم يكن روتينيًا، بل شكّل محطة مفصلية في مسار مراجعة شاملة لمسيرة الصندوق، واستشراف واقعي لخيارات الإصلاح الممكنة.
اللقاء الذي حضره نقيب المهندسين المهندس عبدالله عاصم غوشة، ونائب النقيب ورئيس اللجنة التوجيهية لصندوق التقاعد المهندس أحمد الفلاحات، إلى جانب أعضاء مجلس النقابة والإدارة التنفيذية للصندوق، حمل طابعًا تحليليًا مكاشفًا، استند إلى الأرقام والوقائع لا الانطباعات، وإلى المهنية لا الشعارات.
منذ اللحظة الأولى، كان واضحًا أن الهدف يتجاوز عرض توصيات فرق العمل، ليصل إلى تفكيك المسار التاريخي لصندوق التقاعد، وفهم التحولات التي مرّ بها منذ التأسيس وحتى اليوم. عرضٌ مالي وتحليلي تناول أداء الصندوق حتى 30 أيلول 2025، مع قراءة استشرافية لنتائج عامي 2025 و2026، فتح الباب أمام نقاش معمّق حول العوائد الاستثمارية، وكفاءة التشغيل، وتركيبة الشرائح التقاعدية، والتغيرات في قاعدة المشتركين والمتقاعدين والمستفيدين.
داخل القاعة، لم تُخفَ التحديات. فالمجتمعون تحدثوا بصراحة عن اختلالات اكتوارية تراكمت عبر سنوات، وضعف في فعالية إدارة الأصول، وتحديات تشغيلية واستثمارية باتت تتطلب حزمة إصلاح متكاملة تشمل الجوانب التشريعية والمالية والهيكلية والإدارية. وكان الإجماع حاضرًا على أن أي بديل إصلاحي لا يمكن التعامل معه بمعزل عن أثره المالي والقانوني والاجتماعي.
نقيب المهندسين المهندس عبدالله غوشة شدد خلال النقاش على معادلة دقيقة: مرونة في طرح الخيارات، وصلابة في المعايير، مؤكدا أن الإصلاح الحقيقي لا يُبنى على الاجتهادات أو الضغوط، بل على دراسات اكتوارية موثوقة وبيانات مالية دقيقة، مشيرًا إلى أن ما طُرح حتى الآن هو مخرجات تمهيدية ستخضع لمزيد من المراجعات الفنية والقانونية قبل تحويلها إلى توصيات مرحلية قابلة للنقاش داخل أطر النقابة.
في هذا السياق، برزت الدراسة الاكتوارية العاشرة التي تُعدّها مؤسسة الضمان الاجتماعي كعنصر حاسم في المرحلة المقبلة. فقد أجمع الحاضرون على أن أي خارطة إصلاح جدية لا يمكن أن تكتمل دون الاستناد إلى نتائج هذه الدراسة، المتوقعة قبل نهاية النصف الأول من عام 2026، إلى جانب تدقيقات مستقلة للبيانات والافتراضات، واستشارات قانونية متخصصة تسبق عرض أي قرار على الهيئة المركزية أو الهيئة العامة.
نائب النقيب المهندس أحمد الفلاحات أشار إلى أن فرق العمل أنهت مهامها وقدّمت تقارير تفصيلية عكست جهدًا جماعيًا مكثفًا، وأسهمت في صياغة أفكار عملية لإصلاح الصندوق، معتبرًا أن المرحلة الحالية تمثل منعطفًا حقيقيًا في مسيرة الصندوق، وليس مجرد نقاش عابر.
أما العرض الذي قدمه المدير التنفيذي لصندوق التقاعد، فقد حمل بعدًا توثيقيًا وتشخيصيًا في آن واحد. بيانات زمنية ومؤشرات أداء كشفت مواطن الخلل في العمليات التشغيلية، وأضاءت على الخلل الاكتواري التاريخي الناتج عن الاعتماد على الإلزامية المحلية دون احتساب دقيق للأعباء المالية المترتبة على المهندسين، وهو ما أضفى على النقاش قدرًا عاليًا من الواقعية والمسؤولية.
مداخلات رؤساء الفروع جاءت مكملة للصورة، بنبرة نقدية مهنية، عكست هموم القواعد الهندسية، وأسهمت في تقريب الفجوة بين الأرقام والواقع، وبين التشخيص والحلول. وقد أجمعوا على أن الشفافية التي ينتهجها مجلس النقابة في هذا الملف، ووضوحه في قياس الأثر المالي والاجتماعي والقانوني لكل خيار، تشكّل خطوة أساسية لاستعادة الثقة وتعزيزها.
وفي خلفية النقاش، حضر ملف آلية صرف الرواتب التقاعدية، باعتباره أحد أكثر الجوانب حساسية، حيث تُصرف الرواتب كاملة في حالات العجز، ونصفها للأرامل والأيتام، وربعها لغير الممارسين، بينما ترتبط مستحقات الممارسين بتوفر الإيرادات، وهو واقع أقرّ المجتمعون بضرورة التعامل معه ضمن رؤية إصلاحية عادلة ومستدامة.
مع اختتام الاجتماع، لم تخرج العقبة بقرارات نهائية، لكنها خرجت بما هو أهم: قاعدة صلبة لحوار مسؤول، ورؤية واقعية لإصلاح صندوق التقاعد، قوامها الشراكة والشفافية والعدالة، وإيمان بأن تجاوز التحديات ممكن إذا ما استُكملت هذه الجهود بروح مهنية جامعة، تضع مصلحة المهندس، حاضرًا ومستقبلًا، في صدارة الأولويات.