النسخة الكاملة

جرار يكتب: واجب العزاء وحق الجزاء

الخميس-2025-12-11 10:02 am
جفرا نيوز -
بشار جرار 

للناس الحق في اختلافهم حول معادلة الحقوق والواجبات، البعض يقدم هذه على تلك. مما يميز الدستور الأمريكي أنه كان ثمرة ثورة على كل ما مس ما كان هبة ربانية وحقوقا مكتسبة للناس كافة، ثورة ضد فساد وطغيان العالم القديم برمته -في ما صارت القارة العجوز- وليس فقط ضد الاستعمار والانتداب وتوسع إمبراطورية كانت الشمس لا تغيب أبدا عن أراضيها ومياهها الإقليمية.

الحق أسبق من الواجب حكما وقطعا، كونه هبة من رب الأرباب لجميع خلقه وسائر خليقته، فحتى الحيوانات لها حقوق لا تقتصر على الأليف منها، فوحوش الغاب لها أيضا حقوق مرتبطة بما خلقت لأجله. وتلك فلسفة كامنة في كثير من العقائد بما فيها غير السماوية كالثقافة الروحية السائدة في اليابان الصديق مثلا ذات الراية البيضاء تتوسطها شمسها الحمراء التي يرى الكون كله بكل مكوناته دائرة واحدة متكاملة فيها تتجلى عظمة الخالق، ومحبته، وحكمته، وقدرته.

في البلاد الخارجة للتو من أتون الحروب بأنواعها، ثمة أولوية للواجب على الحقوق، وثمة أسبقية لمبادرة الجميع بتقديم الواجب حتى وإن كان على حساب حق من الحقوق ولو إلى حين. هكذا كان في حروب دامت عقودا في أنحاء عدة من المعمورة بما فيها ما كان العالم القديم في أوروبا وما صار العالم الثالث بعد الاستقطاب الثنائي والمتعدد في عالم لم يعرف الاستقرار بعد. ما زال الطب النفسي وعلم النفس الاجتماعي وعلوم الاجتماع السياسي وأهمها دراسات تحليل النزاعات وتفاديها وصنع السلام، ما زالت تكشف عن جروح غائرة لحروب انقضى على توقف معاركها عقود طوال. حتى الآن في أمريكا ثمة من يعاني تداعيات الحروب الخارجية وبخاصة فيتنام وأفغانستان والعراق، وكذلك الحال في «الربيع العربي» المزعوم المشؤوم وما أسست له من «فوضى خلّاقة»!

في جنوب إفريقيا وبعد تهاوي نظام الفصل العنصري في بريتوريا، تقدم ركب المصالحة القائمة على الاعتراف والاعتذار العلني الجماعي والشخصي المباشر، قادة روحيون عظام، في طليعتهم الأسقف الراحل «دِزْمُنْد توتو» رحمة الله عليه. وكذلك كانت المصالحة وإعادة الإعمار ما أراه أكثر حروب الإبادة توحشا في التاريخ الحديث ألا وهي مجازر الهوتو والتوتسي في رواندا. في هذين البلدين الإفريقيين ودول كثيرة أخرى في القارة السمراء ما يؤكد الحاجة الماسة إلى حق الجزاء حتى تسترد الضحايا حقوقها من الظالمين. لكن واجب الجنوب-إفريقيين والروانديين -وغيرهم- الأول تجاه أنفسهم هو كسر دوامة الشر والخروج من تلك النفسية اللوامة الميالة إلى الانتقام بدعوى القصاص وإحقاق العدل وإن طال الانتظار. والتاريخ يثبت دائما وتكرارا كما جاء في الكتب السماوية أن الله وحده سبحانه هو صاحب الحق في «الانتقام»، وهو القادر بجلال قدرته وحكمته على إحقاق الحق والعدل والخير المطلق في الكيف والكم والتوقيت المناسب. لله سبحانه مواقيته ولن يطول حساب الظالمين الذين تسببوا بما حل في الأشقاء في ساحات الاحتلال والإرهاب والطغيان والفساد، لكن المطلوب العاجل الآن هو تقديم واجب العزاء بأن نعمل على تضميد الجروح والجراح أولا ومن ثم لكل حادث حديث، فالله يمهل ولا يهمل.

أبكتنا وأدمتنا شهادات الناجين من مجازر شهدتها شعوب شقيقة لن يغفل الله أبدا عن مقترفيها، فتلك حقوق ضمن استردادها رب العالمين. أما الواجب ففي رقابنا جميعا بأن نقول خيرا ولا نقول إلا ما يسارع إلى لم الشمل، فلا أحنّ من الوطن على أهله وإن كان «ظلم ذوي القربى أشد مضاضة على المرء من وقع الحسام المهند»..

© جميع الحقوق محفوظة لوكالة جفرا نيوز 2024
تصميم و تطوير