النسخة الكاملة

زحام فصدام

الإثنين-2025-07-21 10:20 am
جفرا نيوز -
بشار جرار

بعيدا عن السياسة، شروط القيادة الآمنة واحدة. بالابتعاد عن معظم الملفات الملتهبة ومن قبلها المزمنة، تظهر الأمور في مشرقنا المكلوم في حجمها الطبيعي وتكشف عن كنهها الحقيقي.

في الفصول على تعاقبها، في تموز حين «تغلي الميّ بالكوز» أم في عزّ «المربعانية»، لا تتغير قوانين السير والقيادة الآمنة، لا للمركبات ولا للمشاة، ولا حتى للماشية خلال مواسم الربيع! حفظ المسارات، والتزام الجميع، كلّ في مساره، في حارته، هو السبيل إلى تفادي الأزمات والاختناقات، وضمان انسيابية المرور والعبور والحركة الآمنة، على اختلاف السرعات والإيقاعات. الأهم هو الضمان الوحيد لتفادي ما هو أخطر من التعطيل، ألا هو التصادم. ليس صادما ما كشفته إحصائيات على مدى سنين، أن القاتل الأول في الأردن والعديد من الدول الآمنة من الحروب والإرهاب ولله الحمد، هي حوادث السير.

غياب ما يعرف بثقافة الالتزام بالمسرب، وطغيان وتفلّت الشعور بحق مفترض بأن السائق أو العابر هو مالك للطريق من غير «طابو ولا كوشان»، وصاحب حق حصري كثيرا ما يصطدم بافتراضات مماثلة، أو مجرد التضادّ مع الاتجاه العام، للمسير السليم بالاتجاه السليم والطريقة السليمة، وفقا لقواعد مشتركة، التزم بها نظريا وعمليا الجميع، قبل استصدار رخصة قيادة.

الآن أعود فأقترب في الشطر الثاني من مقالتي إلى السياسة، سواء ملف غزة أو السويداء، أو الموقف من حرب أوكرانيا أو الصراع بين واشنطن وبكين، أو الموقف من العولمة، ثمة معضلة تزاحم في المسارات وتصادم فيما بين المصرّين على ترك «حاراتهم» وقطع الطريق على «مسارات» الآخرين!

ترك المسرب وقطع المسار كارثة في جميع السيناريوهات، ولا تبرير تشفع به النوايا الحسنة، أو سلامة المقصد ونُبل الغاية، من خواتيم رحلات قادة المركبات، في المسارات كلها. العبرة هي التزام من «يفتي» في قضية ما، بتخصصه أو على الأقل فيما تطمئن فيه نفسه إلى حُسن الاطلاع، على ما هو بصدد الشهادة بحقه، والبتّ والقطع، والوصل والفصل في شأنه! البديل يعدِلُ شهادة زور -والعياذ بالله- قد تتوقف عليها كرامة أو حياة إنسان، أو جماعات بشرية، أو بلاد بأسرها. بلاد، أوطان.. لا أقول حكومات أو قوى حزبية أو فصائلية، بل أتحدث عن أوطان وأسر وأعراض وكرامات وممتلكات فردية خاصة ومقدّرات أجيال.

بصرف النظر مثلا عن الموقف من كارثة السابع من أكتوبر 2023، وبعيدا عن الخوض في الدوافع والذرائع والمبررات للفعل وردود الأفعال، فإن من واجب المتخصص بعلم نفس الطفل -على سبيل المثال- أن يركّز عصارة جهده وبحثه واقتراحاته البناءة عن كيفية التخفيف من آثار الحرب عليه وكيفية التعامل مع حرمان الوالدة والوالد والأشقاء والأسرة الممتدة. ومن بعد ذلك، تأتي أسباب البقاء من مأكل ومشرب ومسكن آمن، إلى جانب حق الطفل في الأمن الجسدي والنفسي والتربية والتعليم. ليس من شأنه ولا يجوز أن يقحم نفسه في كيفية إدارة المعركة أو تسويتها بـأقل الخسائر الممكنة، فتلك اختصاصات لها أهلها.

ولنا في استسهال التعبير اللفظي باع أطول في ظل منصات «التواصل» الاجتماعي. فبدلا من أن يقول المختص في علم النفس وقضايا الطفولة قصائد شعر ومعلقات توجه اللوم وتحرض على هذا وذاك وكل ذلك يتطلب الاختصاص والدراية الحقيقية والعميقة، من باب أولى أن تقدم الخدمة والرعاية النفسية ولو غير المباشرة، فيما ينفع من نسارع في قيادة مركباتنا لإغاثتهم. وحدها سيارات الإسعاف والفرق الإسعافية والطبية المختصة هي القادرة على إنقاذ الأرواح وليس القصائد والبيانات مهما تضمن من جواهر تعبيرية لا ريب في طيبتها ونخوتها وفزعتها.

كثير مما نحن فيه أشبه ما يكون بشارع مزدحم يصر فيه البعض على تحدي المسارات وقطعها، ومن ثم يشكو البعض من الزحام والصدام!!

© جميع الحقوق محفوظة لوكالة جفرا نيوز 2024
تصميم و تطوير