النسخة الكاملة

عمّان تطفئ النار وتشعل السياسة الهادئة

الأحد-2025-07-13 09:06 am
جفرا نيوز -
المحامية هبة أبو وردة

رغم العواصف التي هزّت العلاقة بين عمّان ودمشق على وقع الحرب السورية، بقي الأردن يحرس خيطًا دبلوماسيًا رفيعًا لم ينقطع يوما؛ فلا انخراط في المحرقة، ولا انغلاق في القطيعة؛ حيث تَحَمُّل لأعباء إنسانية وأمنية عميقة، تكاد حدود الشمال تشهد على كل تفصيل منها، من نزوح الأرواح إلى تهريب السموم؛ لأن نخوته تسبق حساباته.

واليوم، باتت عمّان تقرأ المشهد بعيونٍ أكثر براغماتية، تدرك أن الجمود أطول من أن يُترك معلقًا، وأن الجار، مهما طال الجفاء، لا يُستبدل بالجغرافيا، وفي لحظة كثيفة الرمزية، حين اشتعلت غابات الساحل السوري بحرائق خرجت عن السيطرة، لم تنتظر عمّان دعوة ولا تنسيقًا موسميًا، بل اندفعت كما يليق بها لتقديم المساعدة، لم يتخلّ الأردن عن ثوابته، بل منحها ترجمة عملية على أرضٍ اشتاقت للنجدة.

جاء تحرك الأردن بإرسال فرق الدفاع المدني لإخماد حرائق غابات اللاذقية، امتدادًا لطبيعةٍ لم تغيّرها الظروف، ولا شوّهتها حسابات الاصطفاف السياسي؛ فالمبادرة الأردنية ما هي إلا استمرار لنهجٍ طالما جعل من الإنسانية بوصلة، ومن الأخوّة الجغرافية التزامًا أخلاقيًا لا يتغيّر، وقد أثبت مرة أخرى أن الدولة التي تمتلك إرادة مستقلة، يمكنها أن تكون إنسانية بلا ضعف، وبراغماتية بلا انتهاز.

على الرغم من أن الأردن، لا يراهن على الكوارث، ولا يستثمر المآسي، إلا أن القراءة السياسية لا تغفل عن كون هذا التحرّك، أن هذا التحرك يحمل في طيّاته بعدًا سياسيًا باردًا ودقيقًا، يضاف إلى الفعل الإغاثي رسالة صامتة، مفادها أن الحضور الأردني في لحظة الطوارئ هو تجسيد عملي لسياسة الانخراط الذكي، حيث تُمارس السياسة بلغة الفعل الشريف، الذي عطي للعالم نموذجًا لدولة توازن بين المبدأ والمصلحة دون أن تتخلى عن جوهرها.

حيث جاء تحرك الدفاع المدني الأردني لإطفاء حرائق اللاذقية، بعد أن التهمت عشرات آلاف الهكتارات التهمتها النار في الساحل السوري، وكانت عمّان أول من لبّى، عبر طائرات "البلاك هوك”، التي كانت تُحلّق فقط بأنظمة إطفاء، ورسائل السياسية ثلاثة، الأولى وجّهتها عمّان إلى دمشق نفسها، مفادها أن سوريا لم تعد معزولة عربيًا كما في الماضي، وأن دول الجوار مستعدة للتعاون العلني معها في جهود الإغاثة والطوارئ.

الرسالة الثانية أُرسلت إلى الإقليم، أن الأردن يصنع عن العمل العربي المشترك، حيث كان أول من تحرّك، فتبعته دول أخرى، وكأنه دينامو لاستجابة العربية جماعية في سوريا، وبهذا، يضع الأردن نفسه كقائد هادئ لمشهد عربي جديد، يوازن بين الحذر والمبادرة، أما الرسالة الثالثة، عكست بعناية إلى عواصم القرار الدولي، أن الأردن حين ينفتح على دمشق، يداوي أثر الأزمة على نفسه وعلى المنطقة، ويكمل الإرادة الدولية، من باب الواقع والضرورة والإنقاذ.

جاءت هذه المساعدة الأردنية في لحظة سياسية مواتية؛ فقد جاء بعد أسابيع من مؤشرات إيجابية في المنطقة، مثل القمة العربية في جدة، التي حضرها الجانب السوري لأول مرة منذ تجميد العضوية، واستعادة دمشق لمقعدها في الجامعة العربية وبدء عودة التواصل الرسمي مع عواصم عربية كبرى، هذا يعني أن الأردن تحرك في مناخ إقليمي بات يشجع بمد يد العون لسوريا دون حرج دبلوماسي، وأظهر ريادته وحرصه على أمن واستقرار سوريا الجارة.

وفي سياق متصل، ومع أن الظرف الإنساني والعربي كان طاغيًا، إلا أن التحرك الأردني لم يكن اندفاعًا عاطفيًا؛ فحتى في لحظات الإغاثة، لا تسمح عمّان لنواياها الطيبة أن تتجاوز ما يتيحه القانون؛ فالقانون الدولي، لا يعتبر التدخل الإنساني خرقًا للسيادة إذا جاء بطلب الدولة أو بتنسيقٍ معها، وبالتالي هذه اللحظة التي تليق بمروءة الأردن الجيوسياسية، لا تخلو من إدراك سيادي عميق؛ حيث اختارت عمان أن تتحرك دون تجاوز ودون غياب، وأثبتت أن لدولة الرصينة تستطيع أن تكون إنسانية دون أن تمسّ.
حين حلّقت مروحيات "البلاك هوك” الأردنية فوق أحراج اللاذقية، لم تكن مجرد آليات عسكرية في مهمة طارئة، بقدر ما كانت تعبيرًا صامتًا عن عقيدة راسخة، أن الجيش العربي يعرف برسالته الأخلاقية الممتدة من نص الدستور إلى نبض الحدود، ويخوض حروبه من أجل كرامة الأمة، حتى بخزّانات الماء وأذرع الإطفاء، هذا هو الأردن حين يتكلم بصوت جيشه، ويُمارس السيادة عبر الاستجابة المشرّفة، ليدخل أبواب المشهد من أوسع أبواب الثقة.

فطائرات سلاح الجو الملكي الأردني، كجزء من الجيش العربي الذي لم يغِب يومًا عن ساحات الواجب القومي، حلقت فوق غابات اللاذقية، وفي مقدمتها الدفاع المدني الأردني، يُنسّق ويدخل الميدان بحرفيته المعهودة، ممسكًا بخراطيم الإطفاء كما يُمسك الجندي بندقيته في ساعات الحسم، كان تجسيدًا حيًا لهوية الأردن، تجلت فيها المملكة الأردنية الهاشمية كل أطيافها، جيش يهبّ من الجو، ودفاع مدني يثبت على الأرض، وسيادة تُمارَس بحضورٍ يحفظ الكرامة.

عين القارئ السياسي تدرك أن من قلب الغابة المشتعلة وبخرطوم الماء، من الممكن أن تُثبت أن المساعدة النزيهة قد تكون أقوى من التفاوض، وأن اليد التي تُطفئ النار، قد تكون أقدر على فتح الأبواب المغلقة، أكثر من أي وفدٍ دبلوماسي، لتفتح الأبواب المغلقة التي يجب ألا تُغلق بلا أثر سياسي، وأن حسن النية الأردني يستحق أن يُقابَل بخطوات سورية جادة نحو إغلاق الملفات العالقة، لا سيّما تلك التي تمس أمن الحدود والمجتمع، وتشكّل نقاط توتر المزمنة في الشمال الأردني.

فعمّان تطفئ النار وتشعل السياسة الهادئة، وتعزز مكانتها كفاعل موثوق به؛ فحين يهرع "نشامى” الأردن لإطفاء النار في بيوت جيرانهم، يزرعون سردية عميقة، أن السيادة لا تُقاس بعدد الجيوش ولا ضجيج الخطابات، إنما بالفعل الذي يسبق النداء، وباليد التي تمتد لحفظ الحياة، إنها سردية الدولة التي لا تتغيّر بوصلتها، ولا تنتظر إذنًا كي تكون حاضرة، ولا تأخذ موقفًا إلا إذا كان منحازًا لما تبقّى من إنسانية في هذا الإقليم المرهق.

© جميع الحقوق محفوظة لوكالة جفرا نيوز 2024
تصميم و تطوير