نعيش في خضم بحرٍ متلاطم الفضائح التي تسمى بالتريندات والهاشتاجات، والتي لا يعنيها شيء غير حصد الإعجابات والتعليقات والمتابعات، والهدف يتمثل في زيادة احتمالية الحصول على مكاسب مالية من هذا الموقع أو ذاك، ودون أدنى اعتبار لما يسمى بحماية الحقوق الشخصية، واستقلالية القضاء، وإحالة الموضوع القضية إلى الجهات المختصّة لاتخاذ القرار المناسب فيه.
لقد أصبح من يسمون بالمشهورين أو المؤثرين يمارسون أدواراً سامّة تختطف الصلاحيات وتستبيح الحرمات وتصدر الأحكام في أية ممارسات اجتماعية فردية أم جمعية.
يقول « أمبرتو إيكو» إن أدوات التواصل الاجتماعي منحت حق الكلام لفيالق من الحمقى ممن كانوا يتكلمون في الحانات فقط دون أن يتسببوا بأي ضررٍ للمجتمع، وكان يتم إسكاتهم فوراً. أما الآن فلهم الحق بالكلام مثلهم مثل من يحمل جائزة نوبل. إنه غزو البلهاء».
لا توجد مجتمعات خالية من الجرائم التي يقترفها الأفراد، ولا توجد دوائر رسمية وغير رسمية تتسم بالملائكية والمثالية التّامة. فحيث كان البشر وكان التفاعل بينهم، ستوجد كافة السلوكات الأخلاقية وغير الأخلاقية.
أذكر ذات لقاء مع أحد مدراء الأمن العام وما زال على قيد الحياة، حيث أشار بأن الاعتقاد لدى المجتمع عن حجم وعنفية الجرائم المجتمعية تكون أكبر وأفظع في المدن والتجمعات الرئيسة، وهذا الافتراض ليس صحيحاً وبموجب الإحصائيات، فإن كثيراً من المشاحنات والمشاجرات العنيفة والمؤدية إلى القتل أو التخريب تحدث في كافة التجمعات البشرية مهما بلغ حجمها.
وأضاف أيضاً، بأنه ليس غريباً حتى داخل مجتمع الأمن العام أن نجد سلوكات غير اجتماعية وغير مقبولة ويعاقب عليها القانون الرسمي والإنساني، لأن الحديث عن تواجد عشرات الآلاف في مجتمع واحد محدد بزمان ومكان وأعمال، يتوقع أن لا يخلو من ممارسات تخالف السائد والقانون. لكن هذا لا يعني أن ينعكس الرأي والتقييم سلباً على الجهاز بأكمله.
جاءت الحادثة الأليمة فعلاً في انتشار خبر موت عديد من الأشخاص ممن تناولوا مشروبات مسكرة تحتوي على مادة الميثانول القاتلة. خبر أليم ومفجع وموجع، لو كان هذا الحدث جرى في زمن عدم وجود التريندات، لمرّ سريعاً ولم يتوقف المجتمع على رؤوس أعصابه المتوترة أصلاً. وحيث بدأت سلسلة لا تنتهي من التعليقات المسفّة والمعيبة وغير الأخلاقية التي يزعم أصحابها أنهم الحريصون على صيانة الأخلاق المجتمعية الملائكية. لكن الحقيقة أن الهمّ الوحيد لديهم يتمثل في كسب التعليقات والمتابعات. وأصبحت القضية فرصة لمحاكمة كل من يتعاطى المشروب والتندّر عليهم كمادة مثيرة للسخرية والاستهزاء، ناهيك عن إصدار أحكام أخروية وتكفير لهم، لا بل وصل الحال إلى مطالبات ودعوات أن يتم التخلّص منهم بتناولهم جميعاً للمشروب السّام القاتل.
ثم جاءت قضية الجامعة الأردنية تلك التي مرّ عليها خمس سنوات، وليست وليدة اللحظة، ولا نعلم من الذي أخرجها من أدراجها، والتي تم إبرازها بعناوين مثيرة ومستثيرة، حيث يبدأ المانشيت بجملة «فضيحة الجامعة الأردنية»، وهنا نحن لا نقيّم أو نصدر أحكاماً مسبقة في قضية داخلية لإحدى المؤسسات قد تحدث يومياً هنا وهناك، لكن ببساطة شديدة لم يتم الكشف عنها. لقد شُنّت حرب ضروس بحق الجامعة الأردنية والتي لا أزعم الدفاع عنها، فهي بتاريخها ومكانتها وما حققته من منجز وطني ممتد عبر عقود من الزمن، لم تزعم يوماً أنها مجتمع ملائكي نقّي خالي من أية شائبة. فنحن نتحدث عن مجتمعٍ مصغّر يعبّر عن كافة فئات وشرائح المجتمع الأكبر، إنها تضم عشرات الآلاف من الطلبة الذين يتواجدون لمددٍ طويلة ضمن حيّزٍ مكاني محدد، وآلاف من الهيئتين الإدارية والأكاديمية، إضافة للزائرين المتعاملين مع المجتمع الجامعي يومياً ويفوق عديدهم الآلاف. هؤلاء يجتمعون كل يومٍ ولكلٍ منهم شأنه العام والخاص، فلا يعقل ضبط مثل هذه الأعداد بسهولة، علماً أن هناك حساسية في موضوع السيطرة والمراقبة التي إن زادت عن الحد، فقد تتصادم مع حقوق الإنسان واستباحة كرامته وحرمته.
ما جرى في الجامعة الأردنية جريمة لا اختلاف على توصيفها، لكن ينبغي أن لا تنساق تبعاتها للحكم على الجامعة برمّتها وإدانتها وتجاهل منجزاتها وتاريخها ودورها الوطني الرائد.
بالتأكيد أن ثمة أبالسة تسرح في العقول والعواطف وتتلاعب بها، فيخرج عنها ممارسات منافية لكل العادات والتقاليد المتعارف عليها، وأيضا بالتأكيد لا ملائكية لأية تجمعات بشرية متفاعلة وتحتك ببعضها طالما كان الإنسان هو محورها. لكن ذلك ينبغي أن يبقى ضمن حجمه الواقعي دون تضخيمٍ أو مبالغةٍ في تصوير الحدث بشكل يهدد الوجود الاجتماعي للمؤسسات والأفراد دون وجه حق.