في مشهد يُعيد للأذهان خريطة "سايكس–بيكو” ولكن بنسخة ما بعد الحداثة، تقف المنطقة العربية أمام عملية إعادة تشكيل شاملة، تقودها واشنطن وتنفذها تل أبيب بمعونة أدوات إقليمية ومحلية. ولم تكن حرب 7 أكتوبر سوى صرخة في وجه هذا المسار، الذي لم يكتفِ بإعادة رسم الخرائط السياسية، بل تجاوز ذلك إلى إعادة هندسة المجتمعات، وسحق الهويات، وطمس الحقيقة.
الفوضى الخلاقة: الجذر العميق لما بعد 2011
تبنّت إدارة بوش الابن، ولاحقًا أوباما، نظرية "الفوضى الخلاقة” كأداة لتفكيك النظم العربية وتفريغ المنطقة من أي تهديد محتمل لإسرائيل. وقد تحوّلت هذه النظرية من شعار استراتيجي إلى أداة تنفيذية، خاصة مع اندلاع ما سُمّي بـ”الربيع العربي” في 2011.
لكن هذا الربيع سرعان ما انقلب خريفًا قاتمًا في سوريا، واليمن، وليبيا. وتمّ استخدام الحركات الاحتجاجية لتدمير الدول لا لإصلاحها. وفي هذا السياق كتب المفكر عبد الوهاب المسيري أن "الحداثة الغربية لا تريد دولة عربية قوية، بل كيانات وظيفية ضعيفة تسهّل عملية الاختراق والسيطرة.”
الهندسة السياسية والاقتصادية لخدمة أمن إسرائيل
مع تدمير المشرق، أصبح الطريق ممهّدًا لتسويق إسرائيل كـ”شريك إقليمي للسلام والازدهار”. وقُدّمت اتفاقيات "أبراهام” كمدخل لنظام شرق أوسطي جديد قائم على التعاون الأمني والاقتصادي مع إسرائيل.
ووفق تقارير "معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى”، فإن مشاريع مثل منتدى النقب وخط الغاز الإسرائيلي المصري الأردني تُعدّ نماذج لتكريس إسرائيل كمركز للطاقة، والوسيط الطبيعي في المنطقة. كما تعمل تل أبيب على شراكات زراعية ومائية مع دول خليجية، لتطبيع أوسع من مجرد العلاقات الدبلوماسية.
طمس المجازر وتطبيع الإبادة
منذ اندلاع العدوان الإسرائيلي على غزة في أكتوبر، وقُبيل اتساع رقعته إلى الجنوب اللبناني، شهد الإعلام العربي والعالمي أكبر عملية تعمية وتضليل. تمّ تصوير الإبادة الجماعية في غزة كـ”عملية دفاع عن النفس”، بينما تواطأت كبرى وسائل الإعلام الدولية — مثل CNN وBBC — في إعادة رواية الاحتلال الإسرائيلي دون نقل المجازر التي تطال آلاف الأطفال والنساء.
أكّدت بشرى خليل، في تصريح لها مطلع 2024، أن "الآلة الإعلامية التي تبرّر مجازر غزة هي جزء من استراتيجية إبادة، لا تقلّ إجرامًا عن القصف نفسه.”
في المقابل، سُخّرت المنصات الإعلامية العربية الرسمية لتشويه المقاومة، وتصويرها كـ”معرقل للتنمية”، مع تجاهل تام لما تعانيه الضفة الغربية من قمع واستيطان، وما يعيشه لبنان من اختناق اقتصادي بفعل الحصار والعقوبات.
لبنان والمبعوثة الأمريكية "آرتاغوس”: مشروع نزع السلاح بغطاء إصلاحي
من أبرز تجلّيات هذه الاستراتيجية الجديدة، الدور الذي تلعبه المبعوثة الأميركية آموس آرتاغوس، التي لم تخفِ في لقاءاتها مع مسؤولين لبنانيين أن مهمّتها الأساسية تكمن في إعادة تشكيل الدولة اللبنانية بطريقة تفضي إلى نزع سلاح حزب الله تحت عنوان "استعادة سيادة الدولة وتفعيل المؤسسات”.
تأتي هذه المبادرة مدعومة بخطة اقتصادية تهدف إلى دمج لبنان في مشاريع شرق المتوسط، مقابل تقديم مساعدات مالية واستثمارات مشروطة بتطبيق إصلاحات، من ضمنها ما يُعرف بـ”ضبط القرار الأمني بيد الدولة فقط”.
يرى المحلل السياسي اللبناني ميخائيل معوض أن هذا المسار لا يُفضي إلى استقرار، بل إلى فراغ استراتيجي قد يُملأ بقوى خارجية إذا ما جُرّد لبنان من قدرة الردع.
الثقافة كساحة معركة: التطبيع الناعم
لا يقتصر إعادة تشكيل المنطقة على السياسة والاقتصاد، بل يتغلغل في الثقافة والمناهج والتعليم والإعلام. ففي العديد من الدول العربية، تمت إزالة فصول كاملة من المناهج تتناول القضية الفلسطينية، واستُبدلت بسرديات "السلام” و”التسامح الإقليمي”، كجزء من ما وصفته اليونسكو بـ”التهيئة النفسية للجيل الجديد”.
وفي مقابل ذلك، تُحاصر الأصوات الثقافية المناهضة للتطبيع، ويُمنع تداول كتب عبد الوهاب المسيري أو إدوارد سعيد في بعض البلدان، وتُهمّش فعاليات يوم الأرض ويوم النكبة.
حرب 7 أكتوبر: فعل مقاوم أم صدمة استراتيجية؟
أثبتت حرب 7 أكتوبر أن المقاومة ما زالت تمتلك زمام المبادرة، رغم الفجوة التكنولوجية والعسكرية. وقد أجبرت هذه الحرب العالم على إعادة النظر في سردية "الشرق الأوسط الجديد”، وفضحت هشاشة الأمن الإسرائيلي.
يقول بشارة واكيم: "المقاومة لا تُبنى على توازنات السلاح فقط، بل على توازن الوعي. والوعي اليوم ينتفض في شوارع باريس ونيويورك كما في جنين وصيدا.”
⸻
خاتمة: ما بين إعادة التشكيل والانبعاث
ليست حرب 7 أكتوبر حدثًا عابرًا في جغرافيا العنف، بل مفصل تاريخي في صراع أوسع يُخاض على الأرض والعقل. إنها لحظة كاشفة لانقسام حاد بين مشروعين:
• مشروع استسلام وتطبيع وتذويب،
• ومشروع مقاومة، يحمي ما تبقّى من سيادة وهوية وحق.
وفي حين تواصل واشنطن وتل أبيب بناء خرائطهما على أنقاض شعوبنا، يظل السؤال مفتوحًا:
هل آن أوان بعث مشروع عربي أصيل، يعيد للمنطقة معناها ودورها؟