ما إن أعلن دونالد ترامب أن يوم الثاني من إبريل/نيسان هو "يوم التحرير"، أي يوم تحرّر أميركا اقتصادياً بسبب فرضها رسوماً جمركيّة على "العالم"، حتى دخلت الصين "حرباً اقتصاديّة". حربٌ لم يتردّد ترامب بخوضها، كونه علّق تطبيق الرسوم الجمركية مدة ثلاثة أشهر على كل الدول، عدا الصين، التي تجاوزت نسبة الرسوم المتبادلة بينها وبين أميركا 120%.
هذه "الحرب" التي يخوضها ترامب عبر التصريحات التي تصل إلى حدّ البذاءة وظفّت فيها الصين سلاحاً مختلفاً، يهدّد صورة الولايات المتحدة ومفهوم الرأسمالية الذي تتبناه. بصورة ما، عمدت الصين إلى كشف العطب العميق في مفهوم الاستهلاك المفرط، ذاك الذي تجلّى بإقبال الأميركيين الشديد، مرّة أخرى، على شراء ورق الحمام بكميات كبيرة خوفاً من عدم توفره.
بدأ الأمر بفيديوهات موّلدة عبر الذكاء الاصطناعي، يظهر فيها أشخاص بيض وبدناء يشربون الكوكاكولا (الصورة النمطية عن المواطن الأميركيّ)، ويعملون في ورشات صناعة أحذية "نايكي"، ووراءهم شعار "لنجعل أميركا أقوى"، في سخرية من ترامب الذي يريد إعادة فتح المصانع في أميركا والاستغناء عن الواردات الصينية.
هذه السخرية تكشف، بداية، عن أزمة الرأسمالية العميقة المتمثّلة بالاستغلال الذي "صدرته" الولايات المتحدة إلى الصين ذات القوة البشرية العملاقة، مقابل "منتجات" رخيصة الكلفة. لكن هذا رأسمال الصين، أي القوى العاملة وتعدادها، والقدرة على إنتاج البضائع بكمّ كبير، و"الخاسر" في هذه العملية هو المستهلك الأميركيّ الذي يدفع عشرات الأضعاف وسيدفع الآن أكثر، مقابل منتجات ثمن تكلفتها لا يتجاوز في بعض الأحيان بضعة دولارات.
لم يتوقف الأمر عند فيديوهات الذكاء الاصطناعيّ، إذ جاء في جريدة الصين اليوم، الناطقة باسم الحزب الشيوعي الحاكم، أن على الولايات المتحدة أن تتوقف عن لعب دور "الضحية" بعد أن "استفادت من قطار العولمة الاقتصادية". ما تقوله الصين إن العولمة وسلطة الشركات العابرة للقارات قائمتان على العمالة الرخيصة والكم الكبير من الإنتاج، ذاك الذي لا تستطيع الولايات المتحدة تلبيته، حتى لمواطنيها.
الدعاية الصينية نفت فرضية "الضحية" التي يتبناها ترامب في علاقته مع الصين. في الوقت نفسه، انتشرت أقاويل تفيد بأن الصين رفعت السرية عن بنود العمل الخاصة بالعلامات الفاخرة، تلك المصنوعة في الصين والمصدّرة إلى الولايات المتحدة وأوروبا، لتنتشر على وسائل التواصل الاجتماعيّ عشرات الفيديوهات التي تسخر من المنتجات المكلفة والفاخرة، عبر كشف ورشات إنتاج علامات كـ"نايكي" و"أديداس" و"ديور" وغيرها.
تدّعي هذه الفيديوات التي انتشرت على وسائل التواصل الصينية وانتقلت إلى "تيك توك" أن 80% من خطوط إنتاج كثير من العلامات الفخمة موجود في الصين، والتكلفة لا تتجاوز بضعة دولارات، وما إن تُشحن إلى أميركا حتى يتضاعف ثمنها.
المفارقة في هذه الفيديوهات أننا لا نعلم بدقة إن كانت هذه الورشات تنتج علامات مزيّفة أم حقيقية، فضلاً عن أن هناك بعض العلامات الأوروبيّة التي تلاحقها الفضائح أيضاً. لكن بالنظر إلى هذه الفيديوهات ككلّ، نحن أمام هجوم على صورة الولايات المتحدة عبر "تيك توك"، التطبيق الذي كان يراد منعه فيها. هجوم على صورة قائمة على استهلاك العلامات الفخمة بوصفها دلالة على الغنى والسطوة، والأهم "النجاح".
كشف آلية عمل المَشغَل وكواليس الإنتاج الضخم يحوي سخرية من المستهلك الأميركي، ذاك المستعد لدفع آلاف الدولارات مقابل العلامة فقط، وليس الكلفة الحقيقية، فالمُستهلك يظن أنه يشتري منتجاً صنعه محترفون، قضوا ساعات في تصميمه وحياكته، وليس مجرّد خط إنتاج قادر على صنع آلاف النسخ من الحذاء أو الحقيبة خلال يوم واحد.
الذكاء الاصطناعي... هل يزيد البشر غباءً؟
يشرح أحد الفيديوهات آلية الإنتاج، أو بصورة أدق وَهْم العلامة الفاخرة، إذ يقول من يظهر في الفيديو إن أغلب التصنيع يُنجز في ورشات الصين، ثم تُشحن البضاعة إلى ورشات في أميركا وأوروبا، حيث تُغلّف وتوضع العلامة التجاريّة، ثم يُضاعف الثمن. النبرة الساخرة في حديثه تتضح في عبارة يقولها واصفاً شعور المستهلك حين يشتري حقيبة فاخرة: "تجعلك تشعر بالغموض والمَلكيّة، بالتالي الفخامة".
الاقتباس السابق يكشف أمامنا وهم التسويق، ذاك الذي يخفي وراءه الكلفة الحقيقية والاستغلال الذي يخضع له العمال الصينيون، ويخلق شعوراً وهمياً بأن ما يرتديه المستهلك مميز وفاخر. بصورة ما، ندفع آلاف الدولارات مقابل وهم بالتميّز، وهم يسخر منه عمال الورشات،.هذا الوهم هو بالضبط القيمة الذي تسعى الرأسمالية إلى تأكيدها ضمن المعادلة الآتية: خلق الرغبة بدفع النقود والاستهلاك مُقابل وعد وهمي/عاطفي لا يصدقه أحد إلا المشتري نفسه، الذي يجهل القيمة الحقيقية لما يبتاعه. إنها قيمة موجودة فقط في لُصاقَة العلامة التجارية التي لا يتجاوز ثمنها دولاراً واحداً.