النسخة الكاملة

مناطق الموت

الإثنين-2025-04-14 10:05 am
جفرا نيوز -
إسماعيل الشريف

نعمل على توسيع المناطق العازلة في غزة»، كاتز.

كشفت منظمة «كسر الصمت»  (Breaking the Silence) الحقوقية العاملة في فلسطين المحتلة، في تقريرها الأخير عن شهادات مفصلة قدمها جنود صهاينة، توثق عمليات تدمير منهجية للأراضي المحيطة بقطاع غزة. تهدف هذه العمليات إلى إنشاء ما أطلق عليه التقرير مصطلح «منطقة قتل» (kill zone)، وهي عبارة عن مناطق عازلة تمتد على امتداد الحدود بهدف فرض سيطرة عسكرية مُحكَمة.

تواصل الدولة المارقة المجرمة -وفقًا لنمط متكرر في مناطق النزاع- استراتيجية إنشاء مناطق عازلة بشكل ممنهج. فقد استحدثت في الآونة الأخيرة منطقة عازلة تحيط بقطاع غزة من الجهات الشمالية والشرقية والجنوبية، بعرض يتراوح بين 750 مترًا و1.5 كيلومتر. أدت هذه العملية إلى إعادة تشكيل قسري لما يقارب 16% من المساحة الإجمالية للقطاع، مما تسبب في تدمير ما يقدر بنحو 35% من الأراضي الزراعية والمناطق الصناعية التي تشكل شريان الحياة الاقتصادية للسكان المدنيين.

يوثق التقرير -استنادًا إلى شهادات الجنود أنفسهم- طبيعة الأوامر العسكرية التي تلقوها: تعليمات صريحة بإنشاء منطقة خالية تمامًا، شاسعة ومجردة من أي معالم للحياة. وتكشف الشهادات عن توجيهات وصفها التقرير بالصادمة: «دمّروا كل شيء» - لم يستثنِ هذا التدمير المساجد، ولا المدارس، ولا المنازل السكنية ولا حتى المقابر. وبلغت حدة الأوامر العسكرية درجة تقضي بإطلاق النار على أي متحرك في المنطقة، دون أي اعتبار لهويته أو جنسه أو عمره.

تبرز من بين الشهادات المقدمة، رواية أحد الجنود الذي نقل عبارة سمعها من قادته: «لا يوجد أبرياء في غزة». ويستطرد الجندي واصفًا مشهدًا مؤلمًا: «شاهدت رجلاً يحمل كيسًا... كان يتضور جوعًا. دخل إلى المنطقة العازلة لمجرد قطف بعض نبات الخُبّيزة البري ليسد رمق جوعه، لكن أحد القناصة من الجيش أطلق عليه النار على الفور وأرداه قتيلًا».

ويروي جندي آخر شهادة مروعة: «ذهبتُ إلى هناك بهدف القضاء عليهم... ولم نكتفِ بقتلهم فحسب، بل امتدت أيدينا إلى نسائهم وأطفالهم، حتى حيواناتهم الأليفة من كلاب وقطط، ودمرنا منازلهم بالكامل، بل وتعمدنا تدنيس قبورهم بالتبول عليها».

وعندما وُجه إليه سؤال مباشر حول الوضع الراهن في غزة، اختزل الإجابة في كلمة واحدة بالغة الدلالة: «هيروشيما»، مستحضرًا صورة المدينة اليابانية التي دُمرت بالقنبلة النووية كتشبيه لحجم الدمار الذي لحق بالقطاع.

ويكشف أحد القادة العسكريين عن مصطلح جديد ابتكروه في سياق العمليات العسكرية: «أطلقنا عليه ‹خط الجثث›؛ حيث تعمدنا ترك الجثامين ملقاة على الأرض دون دفن، لتصبح فريسة للكلاب الضالة». ويضيف مستطردًا بتفاصيل مؤلمة: «بات سكان غزة يدركون أن تجمُّع الكلاب في مكان ما يشكِّل علامة تحذير يجب الابتعاد عنها... فقد تحولت هذه الكلاب إلى مخلوقات متوحشة بعد أن ذاقت لحوم البشر».

وفي سياق متصل، يشير تقرير نشرته وكالة «أسوشييتد برس» الإخبارية إلى أن القوات الاحتلال تفرض سيطرتها حاليًا على ما يقارب 50% من المساحة الإجمالية لقطاع غزة. وتتزامن هذه السيطرة مع تصريحات صادرة عن عدد من أعضاء الكنيست ووزراء في حكومة نتنياهو تؤكد أن العمليات العسكرية الجارية في غزة تأتي تنفيذًا فعليًا لخطة ترامب، التي تهدف إلى تهجير الفلسطينيين واقتلاعهم من أرضهم التاريخية.

وفي إطار السعي لتحقيق هذه الخطة، يواصل جيش الاحتلال استهداف كل من يمثل رمزًا للأمل والحياة. فقد أزهقت أرواح خمسة عشر مسعفًا كانوا في طريقهم لإنقاذ الضحايا المدنيين، في استهداف مباشر لأطقم الإسعاف.

ويتعامل الاحتلال مع فئات حيوية في المجتمع - عمال الإغاثة، رجال الدفاع المدني، الصحفيين، موظفي الدولة، والأساتذة الجامعيين - باعتبارهم أهدافًا «مشروعة» يجب القضاء عليها، ضمن استراتيجية ممنهجة تهدف إلى اغتيال كل مقومات الحياة، وخلق واقع يستحيل معه إعادة إعمار قطاع غزة أو نهوضه مجددًا.

يطرح الفيلسوف والمفكر إيمي سيزير، المناهض للاستعمار، نظرية تصدم في عمقها الوعي الجمعي: إن ما عجز «المسيحي الأوروبي الأبيض» أن يغفره لهتلر، لم يكن هو الفظائع التي ارتكبها بحد ذاتها، ولا حتى انتهاكاته الصارخة لحقوق الإنسان، بل لأن الجريمة الكبرى التي لا تُغتفر في نظرهم كانت توجيه تلك الممارسات الاستعمارية نحو الإنسان الأبيض نفسه.

فقد تجرأ هتلر على إذلال الأوروبي الأبيض واحتلال أراضيه، مخترقًا بذلك القاعدة الذهبية غير المعلنة: احتكار ممارسات الاستعمار والقمع، تلك التي كانت حتى ذلك الحين حصرية موجهة نحو عرب الجزائر المستعمَرين، وعمال الهند المستغَلين، والسكان السود في القارة الأفريقية المقهورين.

إن الإبادة الجماعية المتواصلة في غزة منذ ما يزيد على عام ونصف العام لا تُفسَّر من خلال ادعاءات الأمن، ولا من خلال مزاعم تحرير المحتجزين. إنها في جوهرها مشروع استيطاني أبيض متكامل الأركان، غايته الأساسية الاستيلاء على الأرض واستنزاف ثرواتها، مع تصفية سكانها الأصليين بشكل ممنهج.

عبّر الرئيس الأمريكي ترامب بصراحة تامة عن: رغبته في تحويل المنطقة إلى «ريفيرا الشرق الأوسط»، خاضعة للهيمنة الأمريكية الكاملة - منطقة مجردة من وجود الفلسطينيين، خالية من أي ذاكرة تاريخية، ومسلوبة من كل مقومات الحياة.

© جميع الحقوق محفوظة لوكالة جفرا نيوز 2024
تصميم و تطوير