النسخة الكاملة

عمّانيون في ذاكرة النسيان.. لماذا غابوا عن التكريم؟

الإثنين-2024-12-23 09:58 am
جفرا نيوز -
محمود كريشان

في البدء.. ومن فضل الله أن هذه البلاد المباركة، قامت على القيم السمحة ومكارم الأخلاق ومبادئه، فأصبحت هذه القيم، سمة كل من يعيش على ثرى الأردن.. قيادة وشعباً.. فمنذ قيام الدولة الأردنية الأبية، وقيم الوفاء والصدق والإخلاص، حاضرة في نفوس هذا الشعب الوفي، الذي تأصلت فيه قيم الوفاء والفداء والبذل والعطاء..

لكننا ومن باب التذكير نتوقف عند موضوعنا المعنوًن بـ"عمانيون في ذاكرة النسيان".. حكايةٌ تحكي مشاعر دفينة، مشاعر تحارب الزمن لتبقى.. حكايةٌ تحكي قصص نبيلة تأبى الزوال.. أبطالها كوكبة من رموز المدينة، ممن يعملون وينجزون بصمت وهدوء بعيدا عن الاستعراض أو البحث عن الشهرة والنجومية، وقدموا الكثير للعاصمة، ولا ينتظرون من ذلك أي شيء سوى خدمة المدينة وأهلها وضيوفها.. لكنها أيضا مصحوبة بالعتب النبيل، ونحن نغض الطرف عن تلك الفئة الطيبة والمنجزة، تستحق فعلا التكريم وذلك من باب الوفاء والتحفيز لأنها تحمل أكثر من دلالة ، سنامها الوفاء لأهل العطاء، وتكريم رجال الفكر وأصحاب العلم والمعرفة والإبداع، كما ترسخ لقيمة إنسانية، في ساحات العطاء والعمل الوطني..

*أحمد علاء الدين

البداية.. مع أحد أبرز "حُماة عمان" في زمن صعب.. ولابد لنا ان نقوم بتذكير من يهمه الأمر بالمرحوم اللواء الركن المظلي احمد علاء الدين الشيشاني، أحد ابطال القوات المسلحة الأردنية، والذي ترك بصمات خالدة في مسيرة حياته، التي قضى معظمها مرتديا البزة العسكرية، متفانيا بالعطاء في سبيل حماية الأردن، في محطات كثيرة مهمة ومشرقة من سجله الناصع، وتاريخ هذا الفارس الأردني الأبي، حافل بالبطولات والتضحيات والإقدام والفروسية والشجاعة، فهو الذي إستطاع بحنكته وشجاعته، تحرير الرهائن في فندق الأردن انتر كونتينانتال العام 1976 عندما باغت الإرهابيين وداهمهم، متوشحا سلاحه ليقضي عليهم بزمن قياسي، ويحرر نزلاء الفندق في مشهد رجولي عزَّ مثيله.. وصورة هذا البطل لا تزال معلقة في الفندق إستذكارا له.. وهو البطل الفارس المغوار في معركة الكرامة عام 1968 يقود كتيبة مشاة، دون ان نغفل أبدا عن فروسيته التي عز نظيرها في أحداث الأمن الداخلي 1970 ودوره في حماية عمّان من الخارجين عن القانون..

*غازي خطاب

وهنا.. وجب التوقف عند "جندي مجهول" نذر جهده ووقته وماله لـ"عمان".. الفنان غازي خطاب وإسهاماته التي تفوق إنجازات مؤسسات رسمية وحكومية كبرى خدمة للعاصمة والحفاظ على إرثها.. فمن يرى متحف الآرمات وما يضمه من مقتنيات تاريخية للحفاظ على جزء مهم من تاريخ المدينة والمفتوحة أبوابه "مجانا" لزوار العاصمة، وقيامه بتأسيس مجمع ثقافي يضم تاريخ السينما والصحافة والفن الأردني.. ولن ننسى ما قام به "خطاب" ايضا بتأسيس ديوانية الخط العربي، وتعليم هذا الفن الجميل، الذي يوشك على الاندثار وتخليده.. فهل هذا الشخص لا يستحق ان يكون ضمن المكرمين، بكل ما قدمه ويقدمه في المجال الطوعي الـ"غير ربحي" أو "تجاري"..؟

*نعيم شقم

وفي هذا السياق المستمر من العمل الخيري والإنساني.. كيف لنا ان ننسى طبيب عيون أهل عمان د. نعيم شقم، وعيادته في شارع الملك حسين، فالتاريخ يحفظ له، أن يكون أحد أكثر أهل زمانه جودًا، وأكثرهم خيرًا، وأجملهم حضورا وهو يقترب ويتقارب مع الناس في جميع أحوالهم، وشاهد ذلك كثير يفوق الوصف والحصر، غير أن آخر ما نقف عنده في ذلك التدفق الإنساني النبيل، ما يقدمه لفقراء المدينة، من تشخيص دقيق لأمراضهم وعلاجها بل ومنحهم الدواء مجانا.. كل ذلك وهو يبتسم ويقول لمريضه: "عينك في عيوننا".. ذلك العطاء ليس مستغربًا على "الدكتور شقم" في إنسانيته وجميل أخلاقه، فهو قدم ذلك الخير إحساسًا منه بمتاعب الآخرين..

*عمر المعاني

ولماذا ننسى عمدة عمان و"أمينها" الأمين م. عمر المعاني، الذي أنجز بزمن قياسي مشاريع نموذجية، أبرزها مشروع ترقيم العاصمة، وهذا إنجاز تاريخي "غير مسبوق" مطلقا، وهو صاحب فكرة الباص السريع، وغيره من بصمات، من ضمنها إعادة تأهيل وتطوير ساحة الملك فيصل، وترميم المسجد الحسيني، وإعادة الروح الى شارع الملك غازي المعروف بإسم "شارع سينما الحسين"، وجملة مشاريع ضخمة مثل: المخطط الشمولي وتجميل صحن عمان، وأنظمة المرور والإشارات الضوئية، وأنظمة مواكبة لروح العصر، لتنتقل العاصمة من مرحلة "الأمانة الخدمية" إلى مرحلة "الأمانة العصرية" المواكبة لتطلعات العصر.

*هزاع ذنيبات

ولماذا "التطنيش" يطال أشهر رقيب سير ليس في الأردن فحسب بل في الوطن العربي، المرحوم هزاع ذنيبات، وقد خدم في جهاز الأمن العام منذ العام 1966 وحتى العام 1984 وتم التمديد له بعقد في عهد مدير الأمن العام المرحوم محمد باشا العيطان، وبقي "هزاع" ينظم مرور عمان حتى أشهر قليلة قبل وفاته عام 2016 وكل العمانيين الذين شهدوا سبعينيات وثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي وكان "هزاع" معلما من معالم المدينة، وكانت منصة جسر النشا أو النور كما كانوا يسمونها هي الأهم.. وكان هزاع جزءا من الفضاء العماني الجميل، كان ينظم المرور، ويبث الحماسة ويولد الدافعية ويزهو بلباسه وشعاره، كنا تشعر انه يملك الشارع ويحب المارة، ويعرف مقاصد كل السائقين، وكانت الوقفة على التقاطع الذي يذرع "هزاع" أركانه بعفوية وخطوات تشعر انها أطول منه، تبدو كدعوة الى مشهد فيه من الجمال والحماسة والإحترام والإخلاص، ما يملأ الصدر بمشاعر التقدير والإعجاب.. وحركة من حركات يديه التي ترفرف كأجنحة طائر يتوق الى التحليق، وكان يحب شمس تموز ولا تخيفه برودة المربعانية، وكان يستقبل دفء أيار بقميص سماوي الزرقة، ويودع خجل أيلول بإرتداء سترة الشتاء الجرزة العسكرية الثقيلة.. هزاع بصراحة أنموذج عماني حقيقي مشرق للتميز.. لماذا غاب عن التكريم..؟.

*هاني السعودي

وعلى صلة فالحديث عن رموز عمان حديث شيق.. فهذا رجل البر والإحسان "عاشق مساجد عمان" المرحوم الحاج "هاني عبده" عبدالمجيد السعودي، والد الصيرفي عبدالسلام السعودي، الذي تبرع بإقامة أدراج وسياجاتها مثل درج المحكمة الشرعية ومناطق أخرى، وهو الذي تبرع بإقامة مرافق خارجية ومواضىء للمسجد الحسيني، ونافورة الماء التراثية في الساحة الخارجية، والتي كانت تستخدم كومضىء ايضا، وتم هدمها للأسف من قبل المشرفين على مشروع تطوير المسجد.. ويذكر ان الحاج هاني كان قد أوصى ان يتم الصلاة عليه في المسجد الحسيني عام 2012 وهذا ما تم لأول مرة بأن تخرج جنازة من هذا المسجد منذ الستسنيات.

*حسن ابوعلي

ولمن يجهلون عمان.. تاريخها ورجالها.. كيف لهم ان ينسوا شمعة من شموع الخير والعطاء.. وزير الثقافة الشعبي حسن ابوعلي الملتصق بكشك الثقافة العرببة شارع فيصل منذ الخمسينيات، وهو المنارة الثقافية في قلب العاصمة والذي يزوره ضيوف الدولة من ملوك ورؤساء ومسؤولين.. ومن يزور الكشك ينتشي بدفء الصور الجميلة له بمعية جلالة الملك عبدالله الثاني، حيث يصطف الضيوف الأجانب لإلتقاط الصور لهذا المشهد المعبر والذي يؤكد ان جلالة الملك دوما قريب من أبناء شعبه.. وتأكيد حقيقي على مدى إهتمام جلالته بالحركة الثقافية والأدبية في الأردن.

*كامل اللالا

وأين هم من كبير المقرئين في المسجد الحسيني القارئ الشيخ كامل اللالا ‏الذي إنتقل إلى رحمته تعالى عام 2020 وقد إعتاد العمانيون سماع تلاوته وإبتهالاته منذ أواخر خمسينيات القرن الماضي في المسجد الحسيني بوسط البلد ومسجد الملك عبد الله الأول وعبر أثير الإذاعة الأردنية وإذاعة القرآن الكريم، وهو الذي تفرغ لحفظ القرآن الكريم وتلاوته منذ الصغر.. وعُين الشيخ اللالا في وزارة الأوقاف، مقرئاً في المسجد الحسيني بوسط العاصمة، وإشتهر بتلاوته القرآنية وموشحاته الدينية قبيل أذاني الفجر والمغرب، خلال شهر رمضان المبارك، مبتدئا موشحاته بـ"أفلح من قال لا إله إلا الله"، والتي كانت جزءاً من وجدان الأردنيين ومعلماً من معالم الشهر الفضيل، ويعطر فضاء عمان الرحب، بصوته العذب الرنان، ويتلو ما تيسر من قصائد مديح الرسول الهاشمي "سيدنا محمد" عبر سماعات المسجد الكبير..

*ممدوح بشارات

لكن المدهش أكثر وأكثر ان لا يكون من ضمن المكرمين "دووق المدينة" الوجيه ممدوح البشارات، سليل إحدى أعرق العائلات العمانية المرموقة، الذي كرّس حياته للحفاظ على الإرث المعماري والثقافي الأردني، وتشبث بإعادة الاعتبار لهوية عمان القديمة، وأعاد الحياة بأفعاله التطوعية لمناطق عديدة أبرزها شارع فيصل، الذي يحتضن بحنان لافت «بيت الدوق»، وقام باستئجار مبنى تراثي قديم في وسط عمّان لحمايته من الزوال، يرجع تاريخه إلى سنة 1924 وقام بتسميته «ديوان الدوق»، ليصبح ملتقى يلتقي فيه المفكرون والشعراء والفنانون على حد سواء، بالإضافة للسياح الأجانب وكبار ضيوف الدولة الأردنية، حيث أصبح ديوان الدوق معلما بارزا من معالم وسط المدينة، مثل سبيل الحوريات والمدرج الروماني، دون ان نغفل أبدا عن دعمه اللامحدود للفن والأعمال الخيرية والإنسانية، وكل ما يخدم البشرية لنشر المحبة والتلاقي والتسامح، حيث تحتضن إحدى البنايات المملوكة له في شارع الملك حسين، مراكز جمعيات إنسانية، مثل الكريتاس، ومجمع شارع الملك حسين الثقافي "غازي خطاب" الذي يضم ذاكرة الفن والسينما والتاريخ لعمان القديمة، وكل ذلك يقدمه الدوق ممدوح بـ"المجان" ودون اي مقابل وبصمت وهدوء.

*علي الساعي

كان الأجدى ان نعيد الإعتبار لصاحب "عمان يا دار المعزة والفخر" الشاعر الغنائي علي عبيد الساعي، وهو الآن طريح الفراش وأسير المرض في البادية الأردنية بمنزله في قرية الخالدية.. هذا القامة الثقافية والأدبية والغنائية والإعلامية طوال سنوات عديدة، وهو جزء ممن خدموا وطنهم، عبر رسالته الشعرية الغنائية والأدبية، وحمل في حقيبته وجيوب دشداشه، قصاصات ورق مكتوبا عليها حروف وكلمات قصائد شعرية غنائية تتغى بالأردن وبعاصمته الهاشمية الأبية، حين صدح صوت الفنان المحبوب الراحل فارس عوض رائعة الشاعر الساعي التي جاء بها: "عمّــان عمّــان.. عمان يا دار المعزة والفخر.. يا حرةٍ ما دّنست أثوابها.. دار الكرامه والكرم واهل الكرم
مفتوح للضيفان دوم أبوابها".. وهو اليوم أسير المرض، الذي أقعده منذ سنوات عديدة.. لا يغادر سريره ولا بيته..!

*جمعية الفيحاء

وفي السياق الخيري.. كيف لنا ان لا نتذكر رائدة العمل الخيري والاجتماعي في عمان منذ العام 1975 وحتى الان "جمعية الفيحاء الخيرية" إحدى أعرق الجمعيات المتميزة في الإنجاز والملتزمة دوما بنهجها الوطني والخيري والإنساني، وهي مؤسسة خيرية بتمويل ذاتي من الأعضاء والمنتسبين، وتقوم بدعم ورعاية الأعمال الخيرية، وفق الضوابط الرسمية والالتزام باللوائح المنظمة للعمل داخل المملكة الأردنية الهاشمية، وتعنى بالخدمات الإجتماعية من خلال عمل مؤسسي، يحقق رضا المستفيدين، من الفقراء والمطلقات والأرامل والمعاقيين والأيتام والمساهمة في تعليم الطلبة الفقراء والأيتام في المدارس والجامعات، وتقدم خدماتها الى جميع المواطنين على السواء وتسخر كافة إمكانياتها للدولة، في حالات الثلوج والطوارىء وغير ذلك.
ما نريد ان نقوله: هؤلاء كوكبة مؤمنة لهم تاريخ حافل في مواقف الخير ومساحات العطاء المليئة بالمواقف، وتاريخ فيه من الأحداث والوقائع، ولهم من العطاء في عمان وغير ذلك من المناطق، وغيرهم من فاتنا ذكرهم في هذه العجالة، ممن بنوا المساجد والمدارس ودور تحفيظ القرآن الكريم، وكفالة الأيتام، وهاجسهم الدائم التطوع وخدمة المجتمع والعمل الخيري، وكانوا قريبين من الفقراء والضعفاء والمحتاجين، ما يفرض علينا ان نستذكرهم من أوسع أبواب الوفاء.. رحم الله من غادرنا منهم.. ومتع الله من بقوا بموفور الصحة والعافية.

kreshan35@yahoo.com
© جميع الحقوق محفوظة لوكالة جفرا نيوز 2024
تصميم و تطوير