جفرا نيوز -
الفوز الساحق لحزب العمال البريطاني في الانتخابات التشريعية الأخيرة، بقيادة كير ستارمر، يمثل تحولاً كبيراً في السياسة البريطانية بعد 14 عاماً من حكم حزب المحافظين.
وفي خطاب النصر الذي ألقاه بعد إعادة انتخابه في دائرته الانتخابية بشمال لندن، أكد ستارمر أن الناخبين صوتوا لصالح التغيير، وأن حزب العمال مستعد لتحقيق وعوده والعودة بالسياسة إلى خدمة الجمهور.
ثمة قضايا رئيسة يتعين على ستارمر وفريقه الحكومي التصدي لها و”إحداث التغيير” في معالجتها كما وعد ناخبيه، فهل سيكون بإمكانه الالتزام بهذه الوعود، أم أن الهامش الممكن للتغيير في العديد من القضايا الداخلية والسياسات الدولية هو في الحد الأدنى، في بلد لطالما كانت سياساته الخارجية بشكل خاص، هي نفسها منذ عقود؟
الباحث الخبير في الشؤون الدولية، المقيم في بريطانيا، محمد صالح فتيح يتحدث لإرم نيوز عن "الثابت” و”المتحول” في سياسات حزب العمال، أو بين الممكن وغير الممكن في "التغيير” الذي وعد ستارمر ناخبيه بتحقيقه.
قضية الهجرة.. قرار سريع
بينما حاول حزب المحافظين جعل قضية الهجرة غير الشرعية قضية مركزية في الانتخابات العامة، وذلك للفت النظر بعيداً عن الأوضاع الاقتصادية والمعيشية. جعل حزب العمال بالمقابل الوضع الاقتصادي والمعيشي قضيته الرئيسة وتجنب التطرق المباشر لقضية الهجرة، بالرغم من قرار ستارمر السريع بوقف خطة رواندا.
يقول الباحث محمد صالح الفتيح إن الموقف الرسمي لحزب العمال هو تنظيم ملف الهجرة بشكل مفيد لبريطانيا. واقع الأمر أن الاقتصاد البريطاني يحتاج إلى المهاجرين وذلك نتيجة شيخوخة المجتمع البريطاني والخروج التدريجي للأوروبيين من بريطانيا بعد انتهاء علاقة بريطانيا بالاتحاد الأوروبي.
ويضيف أن الأوروبيين – وخاصةً القادمين من أوروبا الشرقية – يجدون أن الأوضاع الاقتصادية في الاتحاد الأوروبي تتحسن بشكل أفضل بكثير منها في بريطانيا. وبعض التحليلات الاقتصادية ترى مثلاً أن الاقتصاد البولندي (من حيث حصة الفرد من الناتج الاقتصادي) سيصبح أكبر من الاقتصاد البريطاني بحلول 2030.
ويكشف الفتيح أن حكومة المحافظين سهلت عملياً – وإن بشكل صامت – دخول المهاجرين الشرعيين. ففي 2023 دخل بريطانيا 1.2 مليون مهاجر مقابل 532,000 هاجروا منها لتكون الهجرة الصافية 685,000 وهذه من أعلى المعدلات التاريخية. مشيراً إلى أن المحافظين حاولوا لفت الأنظار بعيداً عن هذا الجانب من الهجرة للتركيز على الهجرة غير الشرعية، وذلك لإدراكهم أن القسم الأكبر من المهاجرين الوافدين – أي الـ1.2 مليوناً – هم قوة عاملة ساهمت بإنعاش الاقتصاد البريطاني الذي يواجه صعوبة في ملء الوظائف الشاغرة، وهذا بدوره دفع لزيادة الأجور إلى حد بعيد وبالنتيجة فاقم من التضخم المالي.
يلفت الباحث السوري إلى أن "العمال يدركون هذا الواقع المتداخل ولهذا تجنبوا مناقشته على نحو علني. الواقع يبقى أن المجتمع البريطاني لا يزال حساساً تجاه قضايا الهجرة. وهذا ما نراه في ارتفاع حصة حزب «UK Reform» اليميني المتطرف من 2% إلى 15% من الأصوات ليصبح عملياً ثالث حزب في البلاد من حيث القاعدة الشعبية (حزب العمال حصل على 35% فقط والمحافظون على 25%). لهذا يرجح أن يترك حزب العمال ملف الهجرة يسير بمساره الطبيعي من حيث استقطاب الاقتصاد البريطاني للمهاجرين ومتابعة تشديد الإجراءات الأمنية على القنال الإنكليزي.
أما ملف ترحيل طالبي اللجوء إلى رواندا، فقد تم إلغاؤه. فالعمال لا يرون مكسباً سياسياً من متابعته كما يقول الخبير. والمحافظون لم يستطيعوا تمرير هذا الملف عندما كانوا في الحكم لوجود اعتراضات كبيرة حوله، ولوجود انتقادات دولية، خصوصاً لمشاركة بريطانيا في بعض الاتفاقات الدولية الناظمة لحقوق الإنسان.
حرب غزة.. موقف "ثابت”
أما فيما يخص حرب غزة، يشير الفتيح إلى أن "العمال اليوم هم أقرب لحزب العمال في عهد توني بلير؛ مما كانوا في عهد القيادي اليساري جيرمي كوربن، ولهذا يرجح أن يبقى الموقف البريطاني الرسمي أقرب للمواقف الغربية التقليدية، خصوصاً مواقف فرنسا، التي تنتقد بعض تفاصيل ما تقوم به إسرائيل، وتتجنب دعمها عسكرياً، ولكنها في الوقت نفسه تبقى بعيدةً عن الاعتراف بالدولة الفلسطينية أو الضغط المباشر على إسرائيل لتغيير مواقفها.
العلاقة مع أوروبا.. "متحول”
يشرح الباحث محمد صالح الفتيح أن قيادة العمال – خصوصاً السير كير ستارمر – أظهرت باكراً حرصها على الانخراط في الشؤون الدولية والتقارب مع القيادات الأوروبية. فشارك ستارمر وقيادات الحزب في منتدى دافوس الاقتصادي في يناير/كانون الثاني 2024، بينما غاب رئيس الوزراء ريشي سوناك. وخلال احتفالات الذكرى الثمانين لإنزال النورماندي في فرنسا الشهر الماضي، حضر سوناك احتفالات اليوم الأول، وغادر لإجراء مقابلة تلفزيونية تحضيراً للانتخابات.
يضيف: ستارمر بالمقابل حضر كامل الاحتفالات، وحظي بفرصة لقاء الرئيسين الفرنسي والأوكراني، وهذا أثار عاصفة انتقادات ضد حزب المحافظين. هذه تفاصيل رمزية ولكنها مهمة، وفقا لفتيح، فبريطانيا حتى الآن لا تمتلك أي اتفاقية تجارة حرة مع شركائها الكبار. وحصة الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة من إجمالي التجارة البريطانية تزيد عن الثلثين. ولكن الأوروبيين تجنبوا فتح ملف التجارة الحرة؛ بسبب استمرار شكوكهم في مقاربة حزب المحافظين. والأميركيون – في عهد ترامب وبايدن – تجنبوا المطالبات البريطانية المتكررة بإطلاق محادثات التجارة الحرة.
الرسالة الضمنية للولايات المتحدة كانت، وفقاً للخبير في الشؤون الدولية، أنه على بريطانيا تسوية ملفات علاقتها بالاتحاد الأوروبي – خصوصاً التجارة الحرة ووضع أيرلندا الشمالية – وذلك قبل أن تُكَافَأ باتفاقية تجارة حرة مع الولايات المتحدة.
ويستذكر الفتيح هنا أن "إدارة بايدن بالكاد تحاورت مع بوريس جونسون أو مع تيريزا ماي، بينما تحادث بايدن هاتفياً بشكل شبه فوري مع ريشي سوناك بمجرد فوزه، وذلك لاعتقاد الأميركيين أن سوناك سيرمم العلاقة مع الأوروبيين. ولكن سوناك لم يفعل الكثير باستثناء "اتفاقية إطار ويندسور” التي وقعت في مارس/آذار 2023، والتي لم يعقبها سوى الجمود على مسار العلاقات الأوروبية-البريطانية.
يعتقد الباحث الفتيح أن ستارمر يبقى في وضع أفضل بكثير لفتح صفحة جديدة في العلاقات مع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة. إلا أنه سيكون في موقع الانسجام في الطروحات الغربية الإجمالية، خصوصاً تجاه روسيا والصين، أكثر من كونه في موقع من يغرد خارج السرب. وحزب العمال، في بيانه الانتخابي، تعهد مثلاً بزيادة الإنفاق الدفاعي من حوالي 2% من الناتج المحلي حالياً إلى 2.5% بحلول 2030 وكذلك تعهد بمتابعة مشروع "ترايدنت” لتطوير جيل جديد من الغواصات النووية والصواريخ البالستية المنشورة عليها والذي تقدر تكلفته الإجمالية بأكثر من 200 مليار جنيه إسترليني والذي طالما عارضه العمال في عهد زعيمهم السابق جيرمي كوربن.
أوكرانيا.. الموقف "ثابت”
من المستبعد وفقاً للباحث محمد صالح الفتيح، حصول أي تغيير في الموقف من أوكرانيا، وخاصة في الشق العسكري،”فبريطانيا وقعت اتفاقية أمنية مع أوكرانيا في يناير/كانون الثاني وفي أبريل/نيسان وقعت اتفاقية أخرى تركز على المشاريع الدفاعية بين الشركات البريطانية والأوكرانية.”
ويلفت إلى أن حزب العمال لم ينتقد هذه الاتفاقات، وحرص ستارمر على اللقاء مع الرئيس الأوكراني في نورماندي هو مؤشر على أن أجندة حزب العمال لا تختلف عن أجندة حزب المحافظين في ملف أوكرانيا. التفاصيل التقنية – من حيث قدرات التصنيع الدفاعي البريطاني – هي ما سيحدد في الحقيقة مستقبل المساعدات العسكرية البريطانية لأوكرانيا.
ويتابع: على عكس الولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا، لم تقم بريطانيا بخطوات جوهرية لزيادة إنتاجها من الذخيرة – خصوصاً قذائف المدفعية – ولا تمتلك فائضاً من الطائرات المقاتلة لتقديمه لأوكرانيا – على عكس فرنسا التي وعدت بتقديم مقاتلات الميراج ودول شمال أوروبا التي وعدت بتقديم مقاتلات إف-16.
إذن؛ مجال المساعدة العسكري المتوقع سيكون عبر التدريب وعبر الطائرات المسيرة وأنظمة الدفاع الجوي، فهذا ما هو متاح تقنياً لبريطانيا تقديمه حالياً، ولا علاقة لهذا بالحسابات السياسية البريطانية، كما يقول الخبير. وبالفعل؛ طلبت وزارة الدفاع البريطانية، الشهر الماضي من الشركات تقديم عروضهم لتوفير طائرات مسيرة لأوكرانيا، ويتراوح الرقم المطلوب بين 4000 و10000 طائرة مسيرة، وفقاً لمعلومات الباحث محمد صالح الفتيح.
إرم نيوز