جفرا نيوز -
جفرا نيوز - محمود كريشان
بلا شك فإن عاصمة بلدنا الجميلة «عمان» متحضرة منذ فجر تأسيس دولتنا الأردنية الهاشمية، حيث اكتظت المدينة وتحديدا وسط البلد بنخبة عيادات طبية لكبار الأطباء المهرة وفي التخصصات كافة منذ ما قبل الأربعينيات من القرن الماضي.
وهنا.. فإن الروائي الأردني المعروف عبد الرحمن منيف، الذي كان أول من كَتَبَ ذكريات العصر الحديث لمدينة عمان في كتاب بعنوان: «سيرة مدينة.. عمان في الأربعينيات»؛ إذ تحدث منيف في كتابه هذا عن جوانب عديدة في حياة عمان القديمة وأهلها ومن ضمنها الطب والأطباء في عمان قديماً:
ثيودور زريقات
واستعرض منيف ما عرفه عن الطب والأطباء في عمان قديماً؛ إذ يُشير الى الطبيب والقنصل ثيودور زريقات، الذي كان يقطن في مبنى مكوَّن من طابقين له شرفة دائرية واسعة، وكانت العيادة والقنصلية في الطابق الأول، وفوقهما دار للسكن مقابل سينما رغدان في شارع بسمان.
ويقول منيف عن هذا الطبيب في ذلك الوقت ما قاله أهل عمّان إنَّ الاسم الأول لهذا للطبيب ثيودور لم يكن هكذا في وقت سابق، لكنه حين عاد الى عمان بعد أن أنهى دراسته الجامعية متخصصاَ بالطب ومعه زوجته الأجنبية عاد باسم جديد، وأن الدكتور زريقات كان قنصلاً فخرياً لليونان في عمان، وربما لدولة أخرى في أميركا اللاتينية.
ويؤكد منيف ان زريقات كان يستقبل الراغبين بالسفر أكثر مما يستقبل المرضى، وأن معظم مرضاه كانوا من بدو الكرك ومأدبا.. حيث يُصرُّ هؤلاء أن تكون الإبرة «الحقنة» جزءاً أساسياً من العلاج.
ويتابع منيف سارداً ذكرياته: « ان هنالك جفوة بين د. زريقات وبين سكان حي القبرطاي لاسباب عديدة من ضمنها تلك الملابس الغريبة التي كان يرتديها؛ إذ ما يكاد فصل الصيف يبدأ حتى كان يخلع الملابس القاتمة التي يغلب عليها اللون الرمادي أو الأسود، ويستبدلها بملابس بيضاء شديدة الغرابة والترف: قبعة من الفلين تحجب رأسه وقسماً من الوجه والرقبة، وهي بيضاء ناصعة، وكذلك البدلة والحذاء والجوارب جميعها بيضاء اللون، وحين كان الدكتور زريقات يخرج للتمشي مع زوجته عصرا كان يلبس قفازات بيضاء أيضاً.. لكي لا يضطر لمصافحة أحد.. وقيل إن القناصل هكذا يفعلون بناء على أوامر من الدول التي يمثلونها..
سوران الأرمني
وعن الدكتور الأرمني سوران يروي منيف ان عيادته كانت في مدخل سوق الخضار قرب سوق السُكر، إذ لا يوجد أحد في عمان او حواليها إلَّا ويعرفه ويُكِنُّ له كل الود، كما إن عيادته كانت عادةً مليئة بالمرضى في كل الأوقات، وكانت الممرضة القصيرة السمينة توزع قطعا حديدية عليها أرقام تحمل دور المرضى، فتوصي كل مريض ان يحفظ رقمه، لكي يدخل حين يأتي دوره إلى الطبيب، لكن الممرضة كانت تجد صعوبة بالغة إذا ما خرج مريض من غرفة الفحص وحان وقت دخول آخر، إذ يهبُ الجميع رافعين «حدايدهم»، وكلٌ يدعي أنه صاحب الدوْر، فيطل الدكتور سوران بصلعته الكبيرة، طالباً الهدوء والنظام، وبعد أن يتأكد من صاحب الدور يقول بلهجة أرمنية مرحة مخاطباً الآخرين لكي يطمئنهم: «أنا ما عندي بيك أو باشا كل واحد بدوره».
قاسم ملحس
قبل سنوات عديدة كان المشاة باتجاه شارع الرضا بمحاذاة البنك الأهلي في وسط عمان يلاحظون يافطة لعيادة قديمة مهجورة على مبنى تراثي جميل بجانب مطحنة الحمصي للزعتر والقهوة، حيث تشير اللافتة الى موقع عيادة «طبيب الفقراء» قاسم ملحس.
ويشير صاحب الذكريات العمانية عبدالرحمن منيف الى ان هذا الطبيب كان صاحب رسالة تربوية بمقدار ما كان طبيباً، إذ لا يتردد في تأنيب المرضى بطريقة قاسية، لا تخلو من سخرية، خاصة وان اللثغة في لسانه تخفف من تلك القسوة، إذ يبدو وكأنه يمزح، فقد كان يفعل ذلك حين يكتشف إهمال المرضى لنظافتهم، وكانت علاقات الدكتور قاسم ملحس بالكثيرين ودية، وبعض الأحيان حميمية.. ولم يكن يتردد في أن يحمل حقيبته الطبية ليذهب إلى أفقر الأماكن وأبعدها في عمان.. وفي تلك الزيارات كان يُبدي ملاحظات حول نظافة البيوت، وضرورة اغتسال الأطفال، ويُوصي بإلحاح ربة البيت أن تُقلل من وضع السمن البلقاوي في الطعام، ولا ينسى أن يتكلم في السياسة مع الرجال.
عبد الرحمن فرعون
وعن طبيب آخر من أطباء عمان المشاهير في أوائل الأربعينيات تحدث عبدالرحمن منيف عن عيادة الطبيب عبد الرحمن فرعون، التي كان يستقبل فيها المرضى للمعالجة، وكان موقعها في مبنى تراثي جميل عند أول مدخل شارع بسمان، والذي يُطل على ساحة المسجد الحسيني.. و كانت شرفات العيادة تستقبل أيضاً قادة المتظاهرين الذين يبحثون عن مكان ملائم لمخاطبة الجماهير التي تتجمع في ساحة الجامع الكبير بعد صلاة الجمعة.
ثيزيو الطلياني
بالإضافة إلى هؤلاء الأطباء يذكر عبدالرحمن منيف في كتابه «سيرة عمان» الدكتور ثيزيو الطلياني ومستشفاه، ففي تجويف كالحضن وسط سفح جبل الأشرفية المُطل على وسط بلدة عمان، كان يتواجد المبنى الضخم للمستشفى الإيطالي، فحين يسقط المطر يتألق المستشفى بحجارته البيضاء بعد غسله الطبيعي بماء المطر، حيث كان يبدو المستشفى كطائر ضخم فرد جناحيه وسط حديقة كبيرة من أشجار الصنوبر والسرو، هذا عدا عن الزهور الجميلة في مقدمة ومداخل المستشفى الإيطالي أو «الطلياني» كما كان يسميه أهل عمان.
ويصف منيف: هذا الطبيب الإيطالي كأنه واحد من الكهنة القدامي:»طويل مملوء، له لحية قصيرة مشذبة، يرتدي باستمرار مريوله الأبيض، وتتدلى على صدره السماعة الطبية»، لم يكن يُرى وحيداً.. فغالباً ما تكون حوله مجموعة من الراهبات الإيطاليات اللواتي يرفلن بثياب بيضاء طويلة، وكأنهن في معبد.
وبعد أن يكمل هذا الطبيب والجراح البارع فحوصاته أوعملياته للمرضى، تتولى الممرضات الراهبات الباقي؛ إذ يشرحن للمريض حالته، وما يجب أن يفعله أو أن يمتنع عنه.. وكانت طريقتهن في الشرح والتوضيح تثير المرح الذي يصل بعض الأحيان إلى حد الضحك، وكل ذلك من خلال لغة عربية مكسرة، وحين لا يكفي هذا الشرح، يلجأن إلى الوصف أو التمثيل، وكان الطبيب الإيطالي ثيزيو وعائلته يسكنون بجانب المستشفى في جناح ملحق به، تماما مثل مساكن الكهنة إلى جانب الأديرة، فقد كان ثيزيو يحب الطب ويحب الحياة.
شارلوت برنل
وغير بعيد عن المستشفى الطلياني، يذكر الروائي عبدالرحمن منيف: كان هناك المستشفى الانجليزي الذي عملت فيه الطبيبة الإنجليزية شارلوت برنل «الست العرجا» في أوائل القرن الماضي فقد افتتحت عيادة خاصة لها في وسط البلد بشارع البتراء قرب سوق الُسكر- واستأجرت بيتاً لها في الاشرفية فوق شارع الطلياني قرب المستشفى الانجليز الذي أصبح المبنى الآن مركزاً صحياً للأمومة والطفولة، وكانت الدكتورة بيرنل تُعتبر جزءاً مهما من تاريخ عمان في الفترة من 1913-1944 حيث درست الطب في بريطانيا في الوقت الذي كانت النساء من النادر جداً ان يدرسن الطب،وبعد أن مارست الطب قليلاً في بلدها جاءت الى فلسطين ثم الى السلط إبان الحكم التركي، ثم الى عمان حيث ظلت عزباء وماتت في عمان ودفنت في القدس حسب وصيتها عام 1944.
إبراهيم كاتبي
وهنا.. فإن طبيب الأسنان إبراهيم كاتبي، وموقع عيادته في شارع الملك فيصل، مقابل البنك العثماني بجانب البنك العربي الآن فقد ذكر منيف عنه أنه: طبيب كان يثير الخوف حين تهدر آلته السوداء بذراعها الطويل، وهي تدخل إلى فم المريض، لتولد ألماً إضافياً فوق الألم الذي لم يكن يترك فرصة لنوم الشخص المتألم لليالٍ كثيرة سابقة من ألم أسنانه، لذا كان الكثيرون يحتملون آلام الأسنان، أو يحتالون عليها، عن طريق الأسبرين أو الأدوية المسكنة، ولا يتردد بعضهم في أن يستبقي دخان السجائر في فمه لفترة طويلة من أجل تخفيف الألم، على أن لا يُسلِّم نفسه لتلك الآلة السوداء بذراعها الطويل، فإذا زاد الألم عن حدٍ معين، ولم تجد معه العلاجات البدائية، كان هناك أحد اثنين: «البطيخي» أو «أبو حسن الحلاق»، فالبطيخي الذي كان «مُركِباً للأسنان ولم يكن طبيباً حيث يتولى معالجة بعض الحالات، أما «أبو حسن» فقد كان يقوم بمهمات كثيرة على رأسها تطهير الأولاد، ثم خلع الأسنان أيضا ببراعة فائقة، إذ كان يفعل ذلك بخيط متين.
يوسف عزالدين
ويشير عبدالرحمن منيف في كتابه سيرة مدينة أطباء عمّان المعروفين في الأربعينيات أيضاً الى الطبيب يوسف عزالدين الذي كان بيته وعيادته يقعان مقابل المدرج الروماني، حيث كان لا يعالج إلا أمراضا معينة، إضافة إلى الاصدقاء والمعارف، وكذلك الحال بالنسبة للدكتور جميل التوتونجي، إذ كان طبيبا خاصا للقصر الملكي عدا عن كونه سياسياً، وبالتالي فإنه كان لا يعالج إلا أشخاصاً أو حالات محدودة جداً.
سياسيون وأطباء
وعن فترة لاحقة بعد منتصف الأربعينيات يقول عبدالرحمن منيف: وصلت كوكبة من الأطباء المميزين طبياً وإنسانياً وسياسياً مثل: عبدالرحمن شقير، ومنيف الرزاز، ونبيه ارشيدات، وجورج حبش ووديع حداد، وعن حبش وحداد يقول منيف: كانت عيادتهما في شارع الملك طلال وغادرا عمان منذ العام 1957 للعمل السياسي.