جفرا نيوز -
المقال بعنوان : «كيف يرى العرب اليهود»، تشرين الثاني 1947 بقلم المغفور له جلالة الملك عبد الله الأول- المجلة الأمريكي
في الذكرى الثانية والسبعين لاستشهاد جدي الملك المؤسس عبد الله بن الحسين على أعتاب المسجد الأقصى، أعيد نشر مقال بعنوان: «كيف يرى العرب اليهود»، كتبه المغفور له الملك المؤسس في المجلة الأمريكية»The American Magazine»عام 1947، وتتجلى فيه قراءته العميقة للتاريخ وفهمه للواقع ورؤيته الاستشرافية في ما يتعلق بالأحداث في المنطقة بشكل عام والقضية الفلسطينية بشكل خاص.
في هذا المقال، يهدف الملك المغفور له إلى تبيان الحقائق للرأي العام وجسر الفجوة بين الشعوب وحفظ كرامة الإنسان في مواجهة التحديات القائمة إلى يومنا هذا، وهنا يأتي السؤال الكبير: كيف ستكسب الإنسانية معركتها؟
رحم الله جدي جلالة الملك عبد الله الأول وطيَّب ثراه.
ملخص:
هذا المقال المذهل الذي كتبه الملك عبد الله الأول ظهر في الولايات المتحدة قبل ستة أشهر من حرب 1948 بين العرب وإسرائيل. في هذا المقال، يناقش الملك عبد الله الرأي الخاطئ الذي يزعم أن المعارضة العربية للصهيونية (وفيما بعد دولة إسرائيل) يرجع إلى كراهية دينية أو عرقية متأصلة. ويشير إلى أن اليهود والمسلمين استمتعوا بتاريخ طويل من التعايش السلمي في الشرق الأوسط، وأن اليهود تاريخياً تعرضوا لمعاناة أكبر على يد أوروبا. ويشير إلى مأساة المحرقة التي تعرض لها اليهود خلال الحرب العالمية الثانية، ويسأل المغفور له عن السبب وراء رفض أمريكا وأوروبا قبول عدد أكبر من اليهود الهاربين والمهاجرين. ويقول إنه ليس من العدل أن تدفع فلسطين البريئة من تهمة اللاسامية ثمن جرائم أوروبا. ويتساءل الملك المؤسس أيضاً كيف يمكن لليهود الادعاء بحق تاريخي في فلسطين، بينما كان العرب هم الأغلبية الساحقة هناك لمدة تقارب 1300 عام متواصلة؟ ينتهي المقال بملاحظة حيث يحذر من وقوع عواقب وخيمة إذا لم يتم العثور على حل سلمي لحماية حقوق العرب في فلسطين.
نص المقال:
إنه لمن دواعي سروري أن أتحدث إلى جمهور أمريكي عن مأساة فلسطين التي لن تجد لها حلا دون تفهم وعطف ودعم أمريكي.
لقد كتبت بلايين الكلمات حول فلسطين وربما أكثر من أي موضوع آخر في التاريخ وهذا يجعلني أشعر بالتردد في الإضافة إلى هذا الكم. ومع ذلك فإنني أجد نفسي مضطراً لعمل ذلك، إذا أنني أكاد أكون على قناعة بأن حقيقة قضية العرب تكاد تكون مجهولة بالنسبة للعالم بشكل عام وأميركا على نحو خاص.
نحن العرب نتابع الصحافة في أميركا، ربما أكثر مما تتصورون. ونشعر بصراحة بالانزعاج حين نجد أنه ومقابل كل كلمة تطبع لصالح العرب، يقابلها ألف لصالح الصهاينة.
ومرد ذلك أسباب كثيرة منها وجود ملايين المواطنين اليهود المهتمين بهذا الموضوع وأصحاب النفوذ الإعلامي الواسع والحنكة المشهورة في أساليب الدعاية. أما المواطنون العرب فهم قلة قليلة في أميركا تعوزهم المهارة والدراية في أساليب الدعاية الحديثة. لقد كانت نتائج ذلك مذهلة بالنسبة لنا حيث تظهر صحفكم صورتنا في أشكال كاريكاتورية فظيعة. ونحن وإنصافا للحق لا نستطيع أن ندع هذا يمر وكأننا غير موجودين.
إن قضيتنا بسيطة للغاية: لقد ظلت فلسطين طوال حوالي 2000 عام عربية 100%، ولا زال العرب فيها هم الأكثرية حتى اليوم، رغم موجات الهجرة اليهودية الضخمة، والتي إذا ما استمرت على هذا النحو فإنها ستؤدي إلى أن يصبح العرب أقلية في بلادهم.
فلسطين بلد صغير وفقير لا يزيد حجمها عن ولاية فيرمونت الأمريكية. ويبلغ عدد سكانها العرب حوالي 1200000 هذا بالإضافة إلى حوالي 600000 من الصهاينة اليهود الذين فرضوا علينا ضد إرادتنا، ومئات الألوف الآخرين المهددين بخطر قدومهم إلينا.
إن موقفنا بسيط وطبيعي للغاية، ومن الغريب والمدهش أن يكون موضع تساؤل. إنه نفس الموقف الذين تتخذونه أنتم في أميركا إزاء يهود أوروبا البؤساء. إنكم تشعرون نحوهم بالأسى ولكنكم لا تريدونهم في بلادكم. ونحن أيضا لا نريدهم في بلادنا، ليس بسبب كونهم يهودا ولكن لأنهم أجانب. إننا لا نستطيع قبول مئات الألوف من الأجانب في بلادنا سواء كانوا إنجليزا أو نرويجيين أو برازيليين أو كائنا من كان.
إننا ندعوكم للتفكير لحظة واحدة: لقد أجبرنا في الأعوام الخمسة والعشرين الماضية على قبول قادمين جدد يعادلون ثلث إجمالي عدد السكان وإذا ما طبقنا هذه المعادلة على أميركا فإن الرقم المماثل هو 45000000 من الغرباء الذين يتعين عليكم قبولهم في بلادكم رغم معارضتكم العنيفة لذلك منذ عام 1921 م، ما هو يا ترى رد فعلكم على شيء كهذا؟.
إن رفضنا الطبيعي بأن نصبح أقلية في بلادنا هو السبب في وصفنا بأننا مصابون بعمى التعصب القومي وبأننا قساة معادون للسامية. وهذا اتهام مثير للسخرية وخطير.
ليس هنالك من شعب على وجه الأرض أقل معاداة للسامية من العرب. لقد ظل اضطهاد اليهود حكراً بصورة كلية تقريبا على الأمم المسيحية في الغرب. ويقر اليهود أنفسهم بأنهم لم يتمكنوا منذ الشتات الكبير من تطوير أنفسهم بحرية كبيرة وبلوغ مكانة مهمة كما حدث معهم في إسبانيا تحت الحكم العربي. لقد ظل اليهود يعيشون لقرون عديدة في الشرق الأوسط وهم ينعمون بسلام تام ويعيشون حياة كلها الود مع جيرانهم العرب، مع وجود بعض الحالات الاستثنائية البسيطة والقليلة جدا.
لقد كانت دمشق وبغداد وبيروت والحواضر العربية الأخرى تضم على الدوام أعدادا كبيرة من التجمعات اليهودية الكبيرة والمزدهرة. وظل اليهود يلاقون معاملة كريمة للغاية إلى أن بدأ الغزو الصهيوني لفلسطين، وكانت تلك المعاملة الكريمة تفوق بشكل كبير ما كانوا يلاقونه في أوروبا المسيحية. والآن، ولسوء الحظ، بدأ اليهود ولأول مرة في التاريخ يستشعرون آثار المقاومة العربية للهجمة الصهيونية. إن اهتمام معظمهم لا يقل بشيء عن اهتمام العرب في إيقاف ذلك. إذا أن معظم اليهود الذي وجدوا موطنا سعيدا لهم بيننا يشاركوننا عدم الترحيب بهؤلاء الغرباء.
لقد بقيت مدة طويلة أشعر بالحيرة بسبب الاعتقاد الغريب السائد في أميركا على ما يبدو والذي يقول بأن فلسطين كانت دائما أرضا يهودية على نحو ما. لقد أوضح أحد الأمريكيين لي في الآونة الأخيرة هذا اللغز، إذ بين لي أن جل ما يعرفه الأمريكيون عن فلسطين يستند إلى ما يقرؤونه في الإنجيل. وهم يقولون بأنها كانت في تلك الأيام يهودية ويفترضون أنها استمرت كذلك.
لا يوجد شيء أبعد عن الحقيقة من ذلك، إن العودة إلى مجاهل التاريخ للتدليل على من يحق له امتلاك فلسطين اليوم هو أمر يدخل في باب اللامعقول. ومع ذلك يردد اليهود هذا القول، وأجد أن من واجبي الرد على « زعمهم التاريخي « هذا. إنني أتسائل فيما إذا كان العالم قد عرف من قبل عن مجموعة من الناس تطالب بصورة جدية بأرض على أساس أن أجدادهم كانوا قد عاشوا فيها قبل نحو 2000 عام؟.
اذا كنتم تظنون أنني منحاز في كلامي هذا فإنني أدعوكم لقراءة أي تاريخ صحيح للفترة والتحقق من الوقائع.
تشير الأجزاء المتناثرة من السجلات الموجودة لدينا أن اليهود كانوا عبارة عن جماعات من البدو الرحل الذين انتقلوا من العراق إلى جنوب تركيا ثم إلى جنوب فلسطين، حيث مكثوا هناك بعض الوقت قبل انتقالهم إلى مصر التي أقاموا فيها حوالي 400 سنة وحوالي 1300 ق.م (وفقاًلتقويمكم) غادروا مصر واستطاعوا تدريجياً احتلال معظم - وليس كل - فلسطين المأهولة.
إنه لأمر له دلالة كبيرة أن تكون البلاد قد أخذت اسمها فلسطين من الفلسطينيين - وليس اليهود، إذن إن كلمة فلسطين مأخوذة من الكلمة الإغريقية « فلستيا «.
ولم يحدث أن سيطر اليهود على معظم - وليس كل أراضي فلسطين تقريباً سوى في عهد إمبراطورية داود وسليمان.
لقد عاشت هذه الإمبراطورية 70 سنة وانتهت في عام 926 ق م. وبعد 250سنة فقط من ذلك تدهورت حالة مملكة يهودا لتصبح مجرد مقاطعة صغيرة حول القدس، لا تكاد تساوي ربع مساحة فلسطين الحديثة.
في عام 63 ق م هزم اليهود على يد الإمبراطورية الرومانية ولم تقم لهم قائمة بعد ذلك، وقام الإمبراطور الروماني هدريان في النهاية بإبادتهم حوالي سنة 135 م، وتدمير القدس كلية وإعادة بنائها تحت اسم آخر، ولم يسمح ليهودي بعد ذلك بدخولها لمئات السنين.
بعد ذلك، بقيت حفنة من اليهود فقط تعيش في فلسطين أما الأغلبية الساحقة فقد كان مصيرها الإبادة أو الشتات إلى بلدان أخرى أو ما عرف بالشتات الكبير، ومنذ ذلك الحين لم تعد فلسطين يهودية بأي معنى من المعاني.
كان ذلك قبل نحو 1815 عاماً، ومع ذلك يزعم اليهود ببراءة بأن فلسطين لا زالت ملكاً لهم. إن السماح بقبول مثل هذه الخرافات يعني تعريض خارطة العالم للعبث اللامعقول؟
إذ سيطالب الإيطاليون في هذه الحالة بإنجلترا التي سيطر عليها الرومان لمدة طويلة، وتطالب إنجلترا بفرنسا « الوطن الأصلي « للفاتحين النورمانديين، كما سيطالب النورمانديون الفرنسيون بالنرويج التي أتى منها أسلافهم.
وقياساً على ذلك قد يطالب المكسيكيون بإسبانيا « وطن « آبائهم، وقد يصل بهم الأمر حد المطالبة بتكساس التي ظلت مكسيكية حتى قبل 100 عام مضى، ويقودنا هذا الافتراض إلى احتمال مطالبة الهنود الأمريكيين « بوطنهم « بصفتهم المواطنين الأصليين الوحيدين منذ القدم لذلك الوطن حتى نحو 450 عاماً مضت.
إنني لا أسوق هذه الأمثلة من قبيل الدعابة، فهذه المطالبات المفترضة تشبه العلاقة التاريخية لليهود بفلسطين من حيث صحتها وطرافتها.
وعلى أي حال، فقد حسم الفتح الإسلامي العظيم الأمور في عام 650 م، حيث تم إخضاع فلسطين للحكم الإسلامي كلية، وغدت منذ ذلك الحين عربية اللسان والعقيدة والسكان. وعندما دخلت الجيوش البريطانية فلسطين خلال الحرب العالمية الثانية وجدوا فيها نصف مليون من العرب و65000 فقط من اليهود.
وهنا يبرز السؤال: أليس الوجود العربي المتواصل دون انقطاع في فلسطين لنحو 1300 سنة كافياً ليجعل منها بلداً عربياً؟
وأود أن أبين هنا أن القدس هي أقدس الأماكن بعد مكة والمدينة المنورة في الإسلام، وفي الحقيقة فقد كانت القدس هي قبلة المسلمين في صلاتهم بدل مكة في الأيام الأولى للإسلام.
« الادعاء الديني « اليهودي في فلسطين هو الآخر ادعاء لا معقول مثله مثل « الادعاء التاريخي « إذ أن الأماكن المقدسة يجب أن تظل مفتوحة للجميع فهذه أماكن مقدسة عند الديانات الثلاث ولا يجب أن تكون حكراً على أحد، ثم أن علينا أن نبتعد عن الخلط بين الدين والسياسة..
إننا نسمع من يصفنا بالقسوة والبعد عن الإنسانية لأننا لا نرحب بقدوم حوالي (200000) من يهود أوروبا الذين عانوا مرارة وقسوة النازي، والذين لا زالوا حتى الآن - بعد نحو ثلاث سنوات من نهاية الحرب - يعانون البؤس في المخيمات الباردة الكئيبة.
اسمحوا لي هنا بالتأكيد على مجموعة من الحقائق: لم يكن للعرب أي دخل أو يد في الاضطهاد الفظيع الذي تعرض له اليهود والذي مارسته ضدهم أمة مسيحية غربية، والحرب التي دمرت أوروبا، وجعلت من المستحيل على اليهود إعادة تأهيل أنفسهم فيها كانت من صنع أمم الغرب المسيحية. إن المساحات الغنية والخالية على سطح الكرة الأرضية هي ملك لأمم الغرب المسيحية وليس للعرب.
ومع ذلك، ومن قبيل إراحة الضمير، تطالب هذه الأمم المسيحية في الغرب من فلسطين - البلد المسلم الصغير والفقير في الشرق - قبول العبء كله، ويصرخ الغرب في وجه الشرق (لقد ألحقنا الكثير من الأذى بهؤلاء الناس، ونرجوكم مساعدتنا في العناية بهم نيابة عنا).
إن هذا القول بعيد كل البعد عن المنطق والإنصاف، وهنا نتساءل هل نحن حقاً قساة ومتعصبون وطنيون بلا قلوب؟
نحن شعب كريم، نفخر بان عبارة « كرم الضيافة العربية « مشهورة في أرجاء العالم، ونحن إنسانيون أصبنا بالصدمة من إرهاب هتلر أكثر من أي شعب آخر، ولا يوجد شعب آخر أكثر تعاطفاً منا مع محنة يهود أوروبا الحالية.
لكننا نقول بأن فلسطين وفرت ملاذاً لحوالي 600000 من اللاجئين، ونحن نعتقد أن هذا يفوق طاقتنا - إنه عدد كبير جداً - ونحن نعتقد بأن الدور هو الآن على بقية بلدان العالم لقبول بعضاً منهم.
وبصراحة تامة أقول لكم، هناك شيء واحد يعجز العرب عن فهمه، لماذا تصر أمريكا من بين كافة أمم الأرض على عمل شيء ليهود أوروبا المعذبين، وهذا شعور جدير بإنسانية أمريكا المشهورة، والعبارات العظيمة المنحوتة على تمثال الحرية في أمريكا.
ومع ذلك فإن نفس أمريكا - الأمة الأكثر ثراء وعظمة في تاريخ العالم - ترفض قبول أكثر من حفنة رمزية من هؤلاء اليهود أنفسهم على أراضيها.
إنني أرجو أن لا يثير كلامي هذا مرارة لديكم، فقد حاولت جهدي حل هذا اللغز المحير وإنني أعترف بأنني عجزت عن ذلك، وكذلك هو حال أي عربي آخر. ربما قيل لكم بأن « اليهود في أوروبا لا يريدون التوجه إلى أي مكان آخر غير فلسطين «.
إن هذه الأسطورة هي واحدة من أكبر انتصارات حملات الدعاية التي تقوم بها الوكالة اليهودية عن فلسطين، حيث تثير هذه الوكالة الحماسة والتعصب للهجرة إلى فلسطين، وهذه خدعة ماكرة تقول نصف الحقيقة، وتنطوي على خطورة مزدوجة.
الحقيقة المذهلة هي أنه لا يوجد شخص على وجه الأرض يعرف « حقيقة « المكان الذي يريد هؤلاء اليهود الذهاب له « بحق«.
إنكم تظنون بأنه وأمام مشكلة خطيرة كهذه لا بد أن تكون السلطات الأمريكية والبريطانية وغيرها وهي المسؤولة عن يهود أوروبا قد قامت بمسح مدروس جيداً، ربما عن طريق التصويت، لمعرفة المكان الفعلي الذي يريد اليهودي التوجه إليه، ولشدة دهشتنا فإن هذا لم يحدث قط، فقد منعت الوكالة اليهودية ذلك.
حين سؤل الحاكم العسكري الأمريكي في ألمانيا في مؤتمر صحفي ذات مرة عن سبب تيقنه بأن جميع اليهود راغبون في الذهاب إلى فلسطين، كان جوابه بسيطاً (المستشارون اليهود لدي قالوا لي ذلك)، واعترف بأنه لم يكن هنالك قط استطلاع للرأي.
لقد كانت الاستعدادات جارية لإجراء استطلاع من هذا النوع أن إلا أن الوكالة اليهودية تدخلت وأوقفته. وفي الحقيقة يخضع اليهود الموجودين في المعسكرات الألمانية اليوم لحملة ضغط صهيونية استفادت الكثير من دروس الإرهاب النازي، ويشعر اليهودي بخطر كبير يمنعه من الإفصاح عن رغبته في الذهاب إلى أي بلد آخر غير فلسطين، وقد تعرض مثل هؤلاء المتمردين إلى الضرب الشديد وما هو أسوأ منه.
لقد أعرب حوالي ألف من اليهود النمساويين قبل وقت ليس ببعيد، لمنظمة دولية للاجئين عن رغبتهم في العودة إلى النمسا، وأخذت الخطط تعد لإعادتهم.
سمعت الوكالة اليهودية بذلك ومارست ضغوطا سياسية كافية لإيقاف الأمر، لأن مجرد بدء اليهود في مغادرة فلسطين يعني دعاية سيئة للصهيونية، ولا زال هؤلاء اليهود النمساويون وعددهم ألف شخص ينتظرون رغماً عنهم.
في الحقيقة نحن نعلم أن اليهود الأوروبيين هم غربيون في ثقافتهم ونظرتهم للحياة، وهم حضريون بشكل تام في عاداتهم وسلوكهم، وبالتالي لا يمكن أن يفكر هؤلاء في ارتياد أرض جرداء قاحلة وصغيرة اسمها فلسطين.
هناك شيء واحد لا شك فيه هو أن معظم المهاجرين اليهود في أوروبا يصوتون اليوم لصالح فلسطين وذلك لسبب بسيط هو عدم وجود بلد آخر يقبلهم.
إذا ما خيرت أنا أو أنت بين العيش بقية العمر في معسكر شبيه بالسجن أو في فلسطين، فإن كلانا سيختار فلسطين ولكننا إذا ما فتحنا أمامهم بديلاً آخر، وأعطيناهم خياراً آخر فإننا سنرى شيئاً آخر.
ومع ذلك، ليس لأي استطلاع أية قيمة، ما لم تصبح أمم الأرض راغبة في فتح أبوابها ولو قليلاً أمام اليهود، وبمعنى آخر، إذا أعرب يهودي في استطلاع ما للرأي عن رغبته في التوجه إلى السويد مثلاً، فيجب أن تكون السويد راغبة في قبوله، وإذا أعرب عن رغبته في الذهاب إلى أمريكا فإن عليكم السماح له بالدخول.
إن أي استطلاع آخر للرأي هو مضيعة للوقت فهو بالنسبة لليهودي اليائس ليس مجرد اختبار للرأي، إنه مسألة جد خطيرة إنها قضية حياة أو موت. وبالتالي فإنه ما لم يكن متأكداً بصورة مطلقة بأن لصوته معنى، فإنه سيصوت دائماً للذهاب إلى فلسطين، حتى لا يفقد العصفور الذي في اليد من أجل آخر على الشجرة.
على أي حال، لا تستطيع فلسطين قبول المزيد، لقد قفز عدد اليهود في فلسطين من 65000 نسمة في عام1918ليصل إلى 600000 نسمة. وزاد عدد العرب كذلك ولكن ليس بسبب الهجرة، وكانت نسبة اليهود لا تتجاوز 11 % من السكان وهم الآن يشكلون ثلث السكان.
لقد كان معدل الزيادة مرعباً. وفي غضون بضع سنوات قليلة قادمة سيلتهمنا القادمون - إذا لم تتوقف الهجرة الآن - وسنصبح مجرد أٌقلية في بلادنا.
إن في بلاد العالم الأخرى من الثراء والسخاء والسعة ما يكفي لاستيعاب 200000 يهودي، أي نحو ثلث العدد الذي كان من نصيب فلسطين الصغيرة البائسة، أما بالنسبة لبقية العالم فإنه مجرد نقطة في إناء، وهو بالنسبة لنا انتحار قومي.
كثيراً ما يقال لنا بأن مستوى المعيشة قد ارتفع عند العرب منذ مجيء اليهود إلى فلسطين، وهذا موضوع بالغ التعقيد. وحتى لو افترضنا جدلاً بأن هذا صحيح فإننا لا شك نفضل أن نكون فقراء ونبقى أسياداً في بلادنا، هل هذا أمر غير طبيعي؟
إن القصة المؤسفة لما يسمى « بوعد بلفور « والذي أعطى إشارة البدء للهجرة الصهيونية إلى فلسطين بالغة التعقيد بحيث يصعب سرد تفاصيلها هنا في هذا السياق، وهو يقوم على وعود خادعة للعرب - وعود كتبت بمداد باهت لا تستحق النفي.
إننا ننكر صحة ذلك تماماً، وننكر على بريطانيا العظمى أن تتنازل عن أرض عربية لإقامة « وطن قومي « فيها لشعب غريب عنها تماماً.
ولا يستطيع حتى ميثاق عصبة الأمم تغيير هذا، إذ لم تكن هذه العصبة تضم في عضويتها حينذاك دولة عربية واحدة، ولم يكن مسموحاً لنا أن نقول كلمة واحدة دفاعاً عن أنفسنا.
إن على أن أبين ثانية بكل ود وصراحة بأن مسؤولية أميركا لم تكن تقل إلى حد ما عن مسؤولية بريطانيا بالنسبة لوعد بلفور. لقد وافق الرئيس ويلسون على الوعد قبل صدوره، وتبناه الكونغرس الأمريكي كلمة كلمة في قرار مشترك صدر بتاريخ 30 حزيران 1922 .
في العشرينيات، كان شعور بالانزعاج والإهانة يخيم على العرب بسبب الهجرة الصهيونية، ولكنه لم يكن قد بلغ حد الذعر. كان معدل الهجرة ثابتاً وصغيراً، وكنا نظن انه سيبقى كذلك، وكان هذا الشعور موجوداً حتى عند المؤسسين الصهاينة، وفي الحقيقة كان عدد اليهود المغادرين لفلسطين يفوق عدد الداخلين إليها لبضع سنوات - في عام 1927 كان العدد هو الضعف.
إلا أن بروز عاملين في أوائل الثلاثينات لم يكونا في الحسبان عند بريطانيا أو العصبة أو أمريكا أو حتى أكثر غلاة الصهاينة ساهما في رفع معدلات الهجرة إلى مستويات لم يكن أحد يحلم بها، العامل الأول هو الكساد العالمي والثاني صعود نجم هتلر.
في عام 1932 وقبل عام واحد من استلام هتلر للسلطة بلغ عدد القادمين إلى فلسطين من اليهود 9500 شخص فقط، لم نرحب بهم، ولكننا لم نكن نخشى على الأكثرية العربية من مثل هذا العدد.
وفي العام التالي - عام هتلر - قفز الرقم إلى 30000 شخص ووصل في عام 1934 إلى 42000 شخص وفي عام 1935 وصل إلى 61000 شخص.
لم يعد الأمر قاصراً على مسألة وصول الصهاينة المثاليين، فقد بدأت أوروبا تقذف بيهودها المرعوبين إلينا، وعندها أصبحنا نحن أيضا مرعوبين، وأدركنا أنه ما لم يتوقف هذا التدفق فإنه سيقضي علينا نحن العرب في بلادنا، ولم نغير رأينا هذا حتى الآن.
لدي شعور بأن كثيرا من الأمريكيين يعتقدون بأن مشكلة فلسطين بعيدة عنهم، ولا يهم أميركا بهذا الموضوع الشيء الكثير، بل إن اهتمام أميركا الموضوع هو مجرد تعاطف متفرج.
إنني أعتقد بأنكم لا تدركون مدى مسؤوليتكم المباشرة وبصورة عامة، كأمة، عن الحركة الصهيونية برمتها وعن الإرهاب الحالي على نحو خاص. وإنني الفت انتباهكم إلى هذا الأمر لأنكم حين تدركون مسؤوليتكم فإنكم ستعترفون بها وتتحملونها بصورة عادلة.
وبعيدا عن الدعم الأمريكي الرسمي « للوطن القومي « الذي تحدث عنه وعد بلفور - فقد كان من المستحيل قيام المستوطنات الصهيونية في فلسطين بالمستوى الحالي دون الأموال الأمريكية التي جاءت من تبرعات اليهود الأمريكيين المتحمسين لمساعدة أبناء جلدتهم.
نعم الحافز وبئس النتيجة المدمرة، كانت التبرعات من أفراد، لكنهم كانوا في غالبيتهم من الأميركيين، وعليه فان أميركا وحدها هي القادرة كأمة على الإجابة على هذا السؤال.
إن النكبة الحالية ستضع حملها كله على أبوابكم، إذا أن حكومتكم، تكاد تكون هي الوحيدة في العالم، التي تصر على وجوب قبول 100000 يهودي آخر في فلسطين - على أن تتبعهم أعداد إضافية أخرى لا تعد ولا تحصى، وسيكون لهذا عواقب وخيمة تأخذ شكل الاضطرابات الدموية التي لم تعرف لها فلسطين مثيلاً من قبل.
إن صحافتكم وحكومتكم دون غيرها في العالم هي التي تلح على هذا الطلب. والأموال الأمريكية هي التي تساهم كليا في تأجير وشراء « بواخر اللاجئين» التي تبحر بصورة غير شرعية نحو فلسطين: الأموال الأمريكية هي التي تدفع للبحارة، والوكالة اليهودية هي المسؤولة عن تنظيم الهجرة غير المشروعة من أوروبا، مدعومة بشكل كلي تقريبا بالأموال الأمريكية. والأموال الأمريكية هي التي توفر الدعم للإرهابيين الذين يشترون الذخيرة والبنادق التي تفتك بالجنود البريطانيين - حلفائكم - والمواطنين العرب - أصدقاءكم.
لقد أصبنا نحن العرب بالذهول والدهشة عندما سمعنا بسماحكم بنشر إعلانات مفتوحة في صحفكم لجمع الأموال لهذه الأعمال الإرهابية، وأعمال القتل العلنية والمتعمدة. لم نكن نصدق بأن هذا يحدث في عالم اليوم، والآن علينا أن نصدق، فقد رأينا هذه الإعلانات بأم أعيننا.
إن بياني لهذه الأمور يرجع إلى قناعتي بأن الصراحة الكاملة هي وحدها الأسلوب المجدي والأزمة حادة لا ينفع معها مجرد الغموض المجامل الذي لا يعني شيئا.
إن ثقتي كبيرة برجاحة عقل وكرم الجمهور الأمريكي. ونحن العرب لا نطلب معروفا من أحد. إن ما نريده هو أن تعرفوا الحقيقة لا نصفها. ونحن نطالبكم بأن تضعوا أنفسكم في مكاننا عند البحث في قضية فلسطين.
ماذا كنتم ستقولون لو طلبت منكم وكالة خارجية ما بأن عليكم أن تقبلوا في أميركيا ملايين الغرباء - الذين يسمح لهم عددهم بالسيطرة على بلادكم، لا لشيء إلا بسبب اضطرارهم إلى الذهاب إلى أميركيا، أو لأن آبائهم الأولين كانوا قد عاشوا هناك ذات مرة قبل نحو 2000 سنة مضت. جوابنا هو نفس جوابكم.
وماذا كنتم ستفعلون، إذا ما قامت هذه الوكالة الخارجية بفرض هؤلاء عليكم رغم رفضكم لهم؟ إن هذا هو ما نفعله.