جفرا نيوز -
جفرا نيوز - من الزي العسكري لزيلينسكي إلى الإطلالة المهيبة لبوتين.. كيف يختار الرؤساء ملابسهم؟ وما الرسائل التي يريدون إيصالها؟
يقول المثل الشعبي في لبنان "لبِّس العود بجود"، للدلالة على دور الثّياب في إبراز شخصية الإنسان، ومنحه مظهراً أنيقاً وجذّاباً. ويعترف وليام شكسبير بأنّ الملابس تَصنع الإنسان، كونها تؤثّر في المحيطين به، وتساهم في خلق انطباعٍ جيد أو سيئ عن شخصيته. وقد أدرك القادة السّياسيون أهمية المظهر الخارجي في تعزيز صورتهم العامّة، فأولوا عناية كبيرة لهيئتهم الجسدية وملابسهم، وقد استعان البعض منهم بفريق متخصص لاختيار "اللوك" المناسب لهم.
تاريخ طويل: من ستر الأجساد إلى ترسيخ التفاوت الطبقي
للملابس تاريخ قديم جداً، فقبل آلاف السنين بدأ البشر يرتدونها لتغطية أجسادهم (بدافع الحياء)، ولحمايتها من عوامل الطقس المختلفة، وأيضاً للتعبير عن ذوقهم الشخصي الفريد. ولكن هناك وظيفة أخرى مهمة للثياب، هي تحقيق التواصل بين الإنسان والمجتمع.
يعتقد المفكّر والأديب وعالم السيميائيات الإيطالي، أمبرتو إيكو، أنّ الملابس ليست مجرّد قطع قماش، بل هي بمثابة نصوص يجب فكّ شيفرتها. في كتابه "مقدمة في البحث السيميائي" (1972)، رأى صاحب "اسم الوردة" أنّ الثياب تحمل إشارات وتنقل معانٍ ورسائل، يمكن تفسيرها وفقاً لسياقات ثقافية واجتماعية وتاريخية مختلفة. كما أكّد أنّ الملابس تملك دلالات أيديولوجية ترمز إلى الهوية الجماعية لمجموعات معينة، كما يمكن أن تحمل شعارات تُروّج لأفكار وقيم متنوعة.
أما عالم الاجتماع الفرنسي، بيار بورديو، فاعتبر أنّ الملابس والهيئة الجسدية، وغيرها من العلامات، تُساهم في تعزيز الهيمنة الثقافية والسيطرة على المجتمع، إذ إنّ الأفراد المنتمين إلى الطبقة البورجوازية يختارون دائماً أنواعاً من الثياب والإكسسوارات تسمح لهم بالتميُّز عن الطبقات الدنيا، التي لا يملك أفرادها القدرة الاقتصادية على الوصول إلى هذه الرموز الثقافية، ومُجاراة البورجوازية في نزواتها.
مثال معاصر.. الملابس في الحرب الأوكرانية
دفعت العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا بعض الشخصيات السياسية إلى واجهة الاهتمام الدولي، وحوّلتهم إلى نجوم على الشاشات الفضائية وعلى مواقع التواصل الاجتماعي. فلا غرابة إذاً في أن ندرس الهيئة الجسدية لبعض هؤلاء الزعماء السياسيين - بغضّ النّظر عن مواقفهم السياسية - خاصّةً أنّهم يحرصون على بناء صورة جذّابة في عيون الجماهير المؤيّدة لهم.
نبدأ مع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلنسكي، الذي لم يألُ جهداً خلال العامين المنصرمين لخلق صورة جديدة لشخصه تُظهره كرئيس "بطل".
بعد بدء الحرب، استشعر زيلنسكي، الآتي من عالم التمثيل، خطورة المرحلة، ووجد بأنّ ملابسه العاديّة لا تتناسب مع الأوضاع العسكرية التي تمرُّ بها البلاد، فقرّر وضعها على رفّ الخزانة واستبدالها بأخرى تليق باللحظة.
وبعد تفكيرٍ وقع اختياره على الزي العسكري، لأنّه يسمح له بتقمّص دور البطل المثالي، وتجسيد صورة الرئيس الكاريزمي المنقذ، القادر على التعامل مع الوضع العسكري والأمني الجديد، وفق تعبير المؤرخ الفرنسير راؤول جيرارديه.
إنّ اعتماد زيلنسكي الزي العسكري لعب دوراً مهماً في خلق صورته الإعلامية الجديدة، لأنه يُشكِّل علامة ترتبط في كثير من الأحيان بالسّلطة والقوة والأمن. هكذا أصبحنا نراه يومياً على الشاشات، متجولاً في المحافل الدولية وهو يرتدي سترة باللون الكاكي وسروالاً عسكرياً، ومنتعلاً حذاءً رياضياً ضخماً.
وقال زيلنسكي في إحدى المقابلات إنه يملك الكثير من السترات الكاكية اللون، بفضل المصممين الأوكرانيين الذين يرسلونها له لارتدائها. ويبدو أنّ هذه الخطة قد نجحت وأتت أُكُلَها في أوروبا والعالم الغربي في بداية الحرب، إذ تعاطف الكثير من الأوروبيين مع الأوكرانيين، وزاد التأييد الشعبي للرئيس الأوكراني، إلى درجة أنه تشَجَّع ونشر سيرة حياته منذ نعومة أظافره حتى ما يسميها "مرحلة النضال الوطني".
وهذا قد يدفعنا للاعتقاد بأنّ الزي العسكري الذي اختاره زيلنسكي مكّنه من صنع صورة "الزعيم" التي يطمح إليها، وساهم في إنشاء وفرض هوية إستراتيجية وعلاقة عاطفية بينه وبين شعبه. بمعنى آخر، أصبح للزي وظيفة أدائية، لأنه خلق صورة "القائد" في عيون جمهوره، وأمام المجتمع الدولي.
بالإضافة إلى حرصه الدائم على الظهور بالمظهر الحربي، ترك زيلنسكي شعر ذقنه ينمو، ليؤكد انتقاله من حالة الكوميديا التي يتقنها جيِّداً، إلى حالة التراجيديا، وليبرهن عن عدم انشغاله بالاهتمامات السطحية السخيفة كالعناية بجسده، وتركيزه على ما هو أهم وطنياً، أي المعارك.
ولعل الرئيس الأوكراني يحلم بأن يداعب مُخيّلة الجماهير وذاكرتها، من خلال استحضار الشخصيات الثورية الملتحية، أمثال إرنستو تشي غيفارا وفيديل كاسترو. ومعظمنا يعلم أنّ هذه الأزياء الثورية، خاصة قبّعة "الكوماندانتي" غيفارا المُزينة بالنجمة الحمراء، ساعدت على إشاعة صورة الثورة خلال الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، وجعلت الشبان يحلمون بحياة من المغامرة والعظمة والمخاطر. وما زالت هذه الازياء إلى يومنا هذا رمزاً للثورة الكوبية، والتصدي للإمبريالية العالمية. ولكن من جهة أخرى، علينا أن نتذكّر أنّ شهرة كاسترو وغيفارا لا تعتمد فقط على الثياب، بل على إنجازات عسكرية واجتماعية واقتصادية وسياسية حقيقية على أرض الواقع.
في المقابل، يعتمد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، أزياءً محافظة وتقليدية في المناسبات العامة. منذ سنوات، يستعرض بوتين قوّته لغايات سياسية بحتة، إذ اعتدنا أن نراه في بدلات أنيقة جداً داكنة اللون ورسمية، ما يشير إلى شخصية جديّة وصارمة، كما يختار أحذية إيطالية باهظة الثمن من أهم بيوت الأزياء.
توحي الهيئة الجسدية لـ"القيصر" بالسلطة والسيطرة على مقاليد الأمور، وهو دقيق جداً في اختياراته لملابسه وإطلالاته، لأنّه يريد أن يعكس صورة الرجل الصّلب المتمكّن من مهامه. كما أنّ وقفته المستقيمة وحركاته البطيئة وعدم تسرّعه في الكلام، تدلّ على الثقة بالنفس والشعور بالفخر، في حين أنّ ملامح وجهه الجادة ونظراته الثابتة يمكن أن تعزّز صورته كقائد حازم.
كما يتمتع الرئيس الروسي ببنية جسدية قوية تلفت الانتباه إليه، وسيطرة على المساحة المحيطة به. يُعرف عن بوتين كذلك قدرته على التحكّم في تعابير وجهه، وهو يعطي انطباعاً للآخرين بأنّه بارد وقاسٍ، أو أنه لا يُبدي مشاعره بشكل واضح.
مع ذلك، يستخدم الرئيس الروسي في بعض الأحيان ابتسامة خفيّة للإشارة إلى موافقته. ولا ننسى أنّ صوره وفيديوهاته في الكرملين توحي بالعظمة، فالمكان غنيّ بديكورات ملكية فخمة وبديعة، ما يُضفي المزيد من الأبّهة على صورته، ويشير إلى التميُّز والثراء والمهابة.
ويبدو جليّاً أنّ بوتين يظهر في إطلالات تُبرز هيبته وقوته، فحتى عندما يلتقط صوراً شخصية له في الطبيعة وخلال رحلات الصيد أو في صالات الرياضة، فهو يتعمّد أن يبدو بمظهر رجل يتحلّى بالشدة والعزيمة، جدير بقيادة روسيا العظمى. وقد نجح بمرور الأيام بأن يصوغ لنفسه صورة رئيس رياضي لا يشرب الكحول، يقتل الحيتان، يحتضن الدببة، ويمارس بمهارة رياضة الجودو القتالية.
أما الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي تأثّرت بلاده بالحرب كما بقية البلدان الأوروبية، فهو يهتمّ كثيراً بصورته أمام الجمهور، ويبذل طاقة لا يُستهان بها للظهور كرئيس دولة مهمة من دول الاتحاد الأوروبي. عندما كان وزيراً للإقتصاد، في العام 2014، وقبلها حين كان يعمل في "بنك روتشيلد" كمستشار مالي ومستثمر، اعتاد ماكرون انتقاء ملابس باهظة الثمن من علامات تجاريّة عالميّة. لكن بعد انتخابه رئيساً في العام 2017، عمل على تغيير "الستايل" للتقرّب من الجمهور، واعتمد مظهراً أنيقاً ولكن أكثر بساطة.
يميل ماكرون عادة لاختيار بدلات عصرية أنيقة، ومصممة جيداً لتُضفي عليه مظهر الاحتراف والجدية وتحمّل المسؤولية، وغالباً ما يرتدي بدلات زرقاء اللون، لأن اللون الأزرق يرتبط عادة بالموثوقية والحكمة، كما يلجأ إلى الألوان الداكنة والقطع الكلاسيكية التي تعزز صورته كقائد حكيم للبلاد.
وقد بدأنا نراه في الآونة الأخيرة يرتدي قمصاناً بيضاء، رُبّما لأنّ اللون الأبيض يدّل على البساطة والانفتاح والرُّقي في الوقت عينه.
وقد سلّم ماكرون زوجته بريجيت دولاب أمر اختيار ثيابه، فأصبحت هي المسؤولة عن تنسيق إطلالاته، وعن اختيار أنواع القماش الإيطالية التي تُستخدم لخياطة بدلاته، وهي تبحث دائماً عن أقمشة لا تتجعّد بسهولة. ازدادت الضغوط على الرئيس الفرنسي بالطبع بعد الحرب في أوكرانيا، بسبب تداعياتها الاقتصادية والاجتماعية، بالإضافة إلى المسائل الداخلية.
وقد حاول ماكرون إظهار تأييده لأوكرانيا من خلال تقليد نظيره الأوكراني، فارتدى في إحدى المرات "هودي" قطنية سوداء، تعود إلى إحدى فرق القوات الخاصة التابعة للقوات الجوية الفرنسية، و"جينز" داكن اللون، وترك لحيته مهملة وشعره غير مُسرّح، في إشارة إلى الإرهاق الكبير الذي يعانيه في محاولة لإنهاء الحرب.
وماكرون، الذي يتعرّض لانتقادات حادّة من الشعب الفرنسي بسبب الأزمة الاقتصادية التي يرزحون تحت وطأتها، وبسبب نظام التقاعد الجديد، يُدرك مدى حساسية موضوع الثياب والمجوهرات بالنسبة للفرنسيين، لارتباطها بالهدر والفساد، لذا حاول في إحدى مقابلاته الأخيرة أن يُخبّئ ساعة يده الثمينة تحت الطاولة، لكنّ الكاميرا كانت له بالمرصاد.
ويمكن ملاحظة أن لغة جسده مؤخراً، خاصة في اللقاءات العامة، توحي بالتوتر ورفض الحوار، خاصة حركة اليدين المغلقة والمشدودة، ما يؤكّد رفضه التراجع عن موقفه فيما يتعلّق بقضية نظام التقاعد.
في جميع الأحوال، يجب أن نُبقي في أذهاننا أنّ الملابس التي يختارها السياسيون ليست عفوية على الإطلاق، وأنّها تحمل رسائل يجب تحليلها والبحث عن دوافعها الحقيقية. ويجب أن ندرك أيضاً أنّ الرؤساء يتعاونون مع فرق متخصصة من المستشارين لإدارة إطلالاتهم أمام الرأي العام، وبالتالي فإنّ بعض الظهور والتصرفات يتمّ تصميمها بشكل مدروس لتحقيق أهداف سياسية مُحددة، أو للتفاعل بشكل أفضل مع الجماهير.