جفرا نيوز -
جفرا نيوز - لقودٍ طوال، ظنّ المحتل الإسرائيلي أنه يسيطر على الفلسطينيين في الداخل. غرز أنيابه في مجتمعاتهم، عزّز مشروع "الأسرلة" بينهم، وقسّمهم بين "عربٍ"، و"فلاّحين"، و"دروز"، و"مسيحيين"، و"بدو" وفئات أخرى.
حتى إنه حاول تصنيفهم إلى "عرب جيّدين" و"عرب مخرّبين"، لكنّه بالرغم من ذلك، في التعامل معهم لم ينسَ يوماً أن الدماء الفلسطينية ذاتها تسري في عروقهم، من أوّل النقب حتى أعالي الجليل على حدٍّ سواء. لذا، المستوطن الإسرائيلي يسعى إلى إطلاق النار عليهم لمجرّد خوفه من لغتهم وهُويّتهم، أو شعوره بالخطر من وجودهم. وهو ما تُرجم بالأمس مع الشهيد محمّد أبو القيعان، البالغ 35 عاماً من بلدة حورة في النقب المحتل، حيث قُتل برصاص هؤلاء المستوطنين.
في الثاني والعشرين من آذار/ مارس الحالي، عند الرابعة بعد الظهر بتوقيت الشهيد محمّد أبو القيعان، وفي وضح النهار في مدينة بئر السبع، جنوبي فلسطين المحتلة؛ في مواقع أربعٍ مختلفة، استلّ محمّد أبو القيعان سكّينه وغرسه في قلوب أربعة من المحتلّين، بعد أقل من 48 ساعة على إعلان تشكيل ميليشيا "بارئيل" المكوّنة من "إسرائيليين مدنيين"، مسلّحين ومدعومين من قوات شرطة الاحتلال ورؤساء بلديات ومستوطنات منطقة جنوبي فلسطين المحتلة، لنشرها في النقب بغية "إعادة شعور الأمان وتعزيز السيادة الإسرائيلية في الجنوب".
جاءت العملية، بينما كانت سلطات الاحتلال تستعد لتعزيز قواتها وإعداد خطة "محبوكة" لمنع أي عمل فدائي أو "شغب" ينغّص على مستوطني الكيان المحتل فرحة عيد الفصح اليهودي المنتظر في الـ15 من نيسان/أبريل المقبل، والذي يتزامن مع شهر رمضان.
أقدم محمّد أبو القيعان آتياً من بلدة حورة المسلوبة الاعتراف في النقب المحتل، على دهس راكب دراجة، هو الحاخام موشيه كرافيتسكي، عضو في حركة "خاباد" اليهودية الأرثوذكسية ومستوطن في بئر السبع قدم من مولدوفا ليستوطن في أراضي البدو منذ عشر سنوات. لم ينتهِ الأمر هنا، حيث عاد محمد إلى سيارته وقام بالتقدم لطعن مستوطِنة عند إحدى محطات البنزين، وهي شقيقة لأحد ضباط شرطة الاحتلال العاملين في مركز شرطة بئر السبع. ثم رجع إلى سيارته مجدّداً قاصداً مجمّعاً تجارياً، ليطعن مستوطِنة أخرى تكون زوجة أحد العاملين في مصلحة السجون الإسرائيلية "شاباص"، ليصل بالتالي بسيارته إلى الموقع الأخير بعكس اتجاه حركة السير، حيث قام بطعن آخرين، واستشهد بعد أن أتمّ جولته القصيرة التي لم تتجاوز عشر دقائق، في حين لم تكن سلطات الاحتلال جاهزة لتلقّي الأنباء.
صدمة إسرائيلية على إثر "عملية بئر السّبع"
في مشهدٍ يذكّر بردّ فعل مسؤولي دولة الاحتلال التي رافقت عملية "نفق الحريّة" خلال شهر أيلول/ سبتمبر الماضي، صُدم المحلّلون الإسرائيليون ومراسلو القنوات الإخبارية بالأمس، على إثر وقْع "عملية بئر السّبع"، إذ أفاد في هذا السياق مراسل "القناة الـ 13" الإسرائيلية، ألموغ بوكر، بتقريرٍ خاص أعدّه للقناة، بأن الشهيد محمّد أبو القيعان "عمل ما في وسعه لقتل أكبر عدد من الإسرائيليين، وقام بذلك منتظراً حتفه".
وتساءل ألموغ بوكر: "كيف تمكّن هذا المخرّب من التنقّل بأريحية بين أربعة مواقع مختلفة في ظل غياب غير معهود للشرطة والجيش وحرس الحدود"، واصفاً ما حدث بأنه "لا يقل عن المعجزة". أمّا المحلّل العسكري ألون بن دافيد، فقد وصف الحدث بأنه "غير عادي، ويختلف عمّا سبقه"، قائلًا: "نحن نتحدث عن منفّذ أراد قتل أكبر عدد من الإسرائيليين حتى يوقفه أحدهم، من دون أن يلقِ بالاً لتبعات الأمر أو أن يفكّر في الفرار".
أسئلة كثيرة تتردّد في الأذهان الإسرائيلية. متظاهرون غاضبون في مكان العملية طالبوا بنشر قوات للجيش والشرطة، وبالسيطرة الكاملة على النقب، صاحَبها تخوّف في جهاز الأمن الإسرائيلي من أن تشكّل هذه العملية مثالاً يحتذى به لفلسطينيين آخرين من الداخل تحديداً خلال شهر رمضان، وهو ما لا تتمنى المؤسسة الإسرائيلية حصوله، وتعمل ما في وسعها للحؤول دونه، استناداً إلى ما أفرزته "هبّة القدس" في الداخل المحتل العام الماضي.
ما بعد الصدمة... التكيّف الإسرائيلي مع مشكلة فلسطينيي الداخل
لعلّ هبّة أيار/ مايو الماضي دفعت المؤسسة الإسرائيلية إلى فرض المزيد من سياسات التوحّش والهمجية تجاه فلسطينيي الداخل المحتل، لتطال أيضاً البدو في النقب الذين تميّزوا ودفعوا ثمن تميّزهم في تلك الأحداث، حالهم حال بقية الشعب الفلسطيني. وبطبيعة الحال، جاءت عملية بئر السبع في سياق الردّ على هذه السياسات.
المحلل الإسرائيلي المختص في الشؤون العربية، تسفي يحزقيلي، علّق على عملية بئر السبع قائلاً: "إن أكثر ما يؤذي الإسرائيليين هو حين يقوم "مواطن إسرائيلي" (من فلسطينيي الداخل المحتل) بتنفيذ عملية. في هذا التوقيت بالذات تساءلنا: ماذا وأين قد يكون مصدر الفتيل الأول لأحداث الفوضى المتوقّعة، والتي قد تتزامن مع شهر رمضان وعيد الفصح اليهودي، لكن لم نعتقد أن الجواب سيكون في النقب". يحزقيلي أشار إلى أن عملية "الفلَسطَنة" (Palestinization) التي يمر بها البدو وفلسطينيو الداخل، وما يخص تواصلهم مع بقية الفلسطينيين؛ أكان عبر الزواج أم عبر العلاقات التجارية، كل ذلك علينا إعادة النظر فيه من جديد".
من جهته، نير دفوري، معلق الشؤون العسكرية في "القناة الـ 12" اعتبر أن "هناك نقطة يجب التوقف عندها ونراها في جميع الهجمات الأخيرة، سواء هنا اليوم أم في القدس، كل هذه الهجمات نفّذها إسرائيليون (فلسطينيو الداخل)، يحملون بطاقة هوية زرقاء. نحن نتحدث عن 8 هجمات خلال أسبوعين، وهذه بالتأكيد موجة تتعاظم كل يوم وعلينا التفكير في أبعادها".
كما عقّب المراسل العسكري لصحيفة "يديعوت أحرونوت"، يوسي يهوشواع، على العملية، لافتاً إلى أن "المشكلة ليست في عملية النقب، بل في فقدان السيادة هناك من الأساس. لقد فقدنا السيطرة منذ مدة طويلة، ورأينا ذروة ذلك ماثلاً أمام أعيننا في هبّة أيار/ مايو الماضي، الذي كان بمنزلة جرس إنذار لنا في كيفية التعامل مع فلسطينيي الداخل والبدو".
وفي تعليق هو الأبرز والأوضح في نقل وجهة النظر الإسرائيلية، علّق رئيس حزب "الصهيونية الدينية"، بتسالئيل سموتريتش، على عملية بئر السبع قائلاً: "التطرف القومي المتزايد بين العرب في إسرائيل (فلسطينيو الداخل) هو بمنزلة قنبلة موقوتة"، وتابع: "الحل يبدأ بالقيادة الإسرائيلية مروراً بالأجهزة الأمنية والنيابة وصولاً للمحاكم. يد من حديد، لا تفاهم ولا تسامح".
النقب المحتل... وحدة مسار ومصير مع باقي الأراضي الفلسطينية
تأتي عملية بئر السبع في ظل ظروف استثنائية، فقد كانت بمنزلة توطئة مبكرة لأحداث مشابهة متوقعة في شهر رمضان بنيسان/ أبريل المقبل، إضافةً إلى مرافقتها لمخططات تشجير وتجريف وطرد واستيطان تستهدف منطقة النقب المحتل.
كما أنها كغيرها من العمليات السابقة، كشفت عن مزيد من الثغرات في أجهزة الاحتلال الأمنية، وحتى في تعاطيه مع الحدث، وهي بمنزلة استكمال لنقطة تحوّل بدأت منذ أيار/مايو الماضي بالأخص وأن "هبة القدس" في حينها وضعت في خانة "التهديد الوجودي" على الكيان.
إضافة إلى ذلك، فإن العملية بأبعادها الأمنية والسياسية وحتى الاجتماعية وجهت ضربة قوية لمفهوم "الدولة الآمنة لليهود"، في الوقت الذي يسعى فيه كيان الاحتلال إلى استغلال الأزمة في أوكرانيا قدر الإمكان، في سياق استقدام مستوطنين جدد، وتحديداً إلى منطقة النقب.