جفرا نيوز - جفرا نيوز - كل ما يحيط بالمشهد ينبئ بتراكمات إضافية، وينذر بدهون مشبعة، ويلوح بسكريات معقدة. والنتيجة على الأرجح بعد أسابيع قليلة ستكون طبقات إضافية لم تخطر على بال، وانتفاخات مضاعفة لم تطرأ على خاطر. فالبرودة كانت شديدة، والرغبة كانت جامحة، والرائحة كانت جائحة.
صقيع وروائح
لا جائحة فيروسية، أو عاصفة أمطار وصقيع، حتى لو كان اسمها "هبة"، أو رغبة بشرية في الحفاظ على اللياقة البدنية، تستطيع الصمود طويلاً أمام تلك الروائح الرهيبة المتداخلة المدغدغة للمركز العاطفي في الدماغ. سحلب مشبع بالحليب والبذور وجوز الهند والسكر، زلابية غارقة في عسل وسكر، شوربة عدس، يقول البصل المحمر الكثير عن إضافاتها، قهوة بالشوكولا بالكريمة المتفجرة، فطيرة تفاح ساخنة ملحقة بكُرة آيس كريم باردة، قنبلة الشوكولا ذات القلب السائل المنهار أمام أول ضربة بالملعقة، البطاطا الحلوة التي تمردت على بائعها المتجول وفرنه البدائي، وباتت كعكة مزودة بالزبدة والقرفة والطحين، وكذلك تارت متفجرة بـ"لوتس" وقشدة وكريمة، وما خفي كان أعظم.
أعظم ما يطرحه الشتاء في مصر هو مبدأ العدالة الاجتماعية التي لا تُعرقلها فروق اقتصادية، أو تهددها فوارق اجتماعية. العدالة الاجتماعية الشتوية تكمن في إتاحة أطعمة ومشروبات يعتبرها المصريون من لوازم الشتاء وأساساته، فلا الشتاء يستوي من دونها، ولا هي تُؤكل وتُشرب في غيره.
شتاء شعبي
الشتاء في الأحياء الشعبية وما دونها من بقايا مناطق عشوائية عامرة بما لذ وطاب من صنوف "لوازم الشتاء". البليلة سيدة الإفطار وملكة العشاء. ملايين البيوت المصرية تجهزها في المطابخ البسيطة، حيث إن كل المطلوب قمح وماء وقليل من الحليب وبعض من السكر. وجبة شهية مشبعة، وإلى حد ما في متناول كل الجيوب ما علا منها فوق خط الفقر أو قبع عليه. ولمن لا يسعفه مطبخه بالبليلة الشتوية، فإن "عم أحمد" أو "عم سيد" أو "عم حسين"، وغيرهم كثيرون يجولون الشوارع الجانبية، أو يتمركزون في بؤر حيوية بقدر بعضها فول، والآخر بليلة.
ويقال إن البليلة اختراع مصري صميم يعود إلى نهاية عصر بُناة الأهرامات. ويشير كتاب "لغز الحضارة المصرية" لمؤلفه سيد كريم إلى "أن عيد طرح بذور القمح المقدس كان من أهم الأعياد الدينية في منف القديمة، بل إن توقيت هذا العيد الذي كانت تؤكل فيه البليلة الفرعونية القديمة كان يوم العاشر من طوبة". يشار إلى أننا في شهر طوبة حالياً، لكن شهر طوبة عام 1738 يختلف عن نظيره قبل مئات، أو بالأحرى آلاف السنوات، وقت كانت البليلة قمحاً وماءً وحليباً فقط لا غير.
البليلة للجميع
اليوم، تزهو البليلة بعولمتها، حيث البليلة بالكنافة، وبالآيس كريم، وبالمانغو، والبقلاوة، وبالموز، والفراولة، وبكل ما من شأنه أن يجعل منها طبقاً تسعى الجماهير الغفيرة في الشارع إلى التوقف عند أحد منافذ بيعها الكثيرة عسى سعراتها الحرارية المتفجرة أن تمنحهم سلاماً داخلياً ودفئاً خارجياً.
مصادر الدفء في الشوارع هذه الأيام لا تعد أو تحصى. فبالإضافة إلى مئات المطاعم والمقاهي والمحال التي تتفنن في دغدغة مشاعر البردانين والدق على أوتار الجائعين، فإن آلاف الشباب والشابات الهاربين من براثن البطالة يشاركون في الدغدغة والدق بمشروعات متناهية الصغر في كل شارع وميدان. عربة صغيرة لقلي الزلابية وبلح الشام، ثم إغراقها في عسل غزير، وإلى جوارها أخرى تبيع حمص الشام أو "الحلبسّة"، حيث الحمص غارق في خليط رهيب قوامه الشطة أو الفلفل الحار المكثفة الكفيلة بالمساهمة في مزيد من إذابة الجليد بالقطب الشمالي المتجمد، وثالثة تقدم الذرة الحلوة الغارقة إما في عسل النحل أو الزبدة مع الملح والفلفل.
مشروعات صغيرة وسعرات كثيرة
سلاسل عربات الطعام في شوارع المدن المصرية شديدة البرودة لم تترك أكلة شتوية إلا وطهتها أو مشروباً شتوياً إلا وجهزته. وفي المقابل، فإن جموع المصريين لم يقصروا في الإقبال على كل ما يؤكل ويشرب، ومن شأنه أن يواجه موجة البرودة ويدحض الشعور بالصقيع، لكن الثمن سيكون باهظاً.
نحو 200 غرام من شوربة العدس بالخبز المحمر في الزبد، وحصة من "سدّ الحنك" (حلوى مصنوعة من السمن والطحين والسكر)، يعقبها كوب من الكابتشينو بالكريمة كاملة الدسم ونكهة الكراميل اللذيذة وجبة شارعية بسيطة ليست باهظة الثمن. كذلك طبق الكشري يعقبه الأرز باللبن بالقشدة ثم كوب من السحلب بغرض الهضم وغيرها ليست باهظة الثمن من حيث المدفوعات المالية، لكن المدفوعات الغالية والثمن الباهظ يحين وقتهما عند بدء التحلل من طبقات الملابس الشتوية التي تحجب ما تم تراكمه من شحوم وما ترسب في كل مكان من دهون وما برز هنا وما تفجر هناك.
حقائق الشتاء والأكل
هناك عدد من الحقائق الخاصة بالشتاء وبرودة الجو. الأولى هي أن عدد ساعات النهار الأقصر وبرودة الجو يساعدان على التقليل من معدل وكمية الحركة. والحقيقة الثانية هي أن "الاضطراب الموسمي العاطفي" يضرب كثيرين دون أن يشعروا أو يعرفوا بالضرورة المقصود منه، لكن التغيرات في المزاج التي تصيب البعض باكتئاب في الأجواء الباردة تدفع أحياناً إلى البحث عن الراحة والسلوان في طبق بليلة إضافي أو حصة سد الحنك غير ضرورية أو لوح شوكولا لم يجد من يأكله في البراد منذ أشهر. وحتى إذا كانت العين المجردة تشير إلى أن القاعدة الجماهيرية العريضة المصطفة أمام عربة البليلة أو كشك الزلابية أو غلاية السحلب ليست مصابة باضطراب موسمي عاطفي، بل بإفراط غذائي جماعي.
مجموعة طلاب وطالبات الجامعة المتجمهرة حول سلسلة عربات أطعمة في منطقة "الكوربة" في حي مصر الجديدة (شرق القاهرة) في ليلة لم تزد درجة الحرارة فيها على 2 درجة مئوية أجمعوا على أن "اللمة تحب الأكل" وفي أقوال أخرى أن "الأوقات الشتوية الجميلة لا تكتمل إلا بأكلات تدفئ البطون والأطراف".
قلقاس وعدس
وعلى الرغم من اختلاف المواقف والرؤى فيما يختص بمغبّة هذا النوع من الدفء المعبأ بالسعرات الحرارية التي لا تنتهي آثارها مع نهاية فصل الشتاء، وعلى الرغم من ردود الفعل المغايرة بين مهتمين قلقين على مظهرهم جراء نوبات الأكل والشرب العاتية في الشتاء، وغير مهتمين وغير قلقين مما ستخلفه أكواب السحلب وأطباق العدس وسلاطين القلقاس وفناجين القهوة بالكريمة والنكهات من كيلوغرامات إضافية لن تفلح ملابس الصيف الخفيفة من تمويهها أو تجميلها عكس ملابس الشتاء متعددة الطبقات الحاذقة في إخفاء النتوءات والزيادات، إلا أن الكيلوغرامات الإضافية المكتسبة شتوياً توحد الغالبية.
الأقلية فقط من أصحاب الإرادات القوية في ممانعة السحلب ومقاومة العدس بالخبز الغارق في الزبد، أو من ذوي القدود غير القابلة لاكتساب الوزن الزائد على الرغم من الأكل الوافر، أو من أصحاب الإرادات الفولاذية الذين يداومون على برامج رياضية على الرغم من برودة الأجواء هي من يمضي شتاؤها دون آثار جانبية مدمرة للقوام وهادمة للرشاقة.
الطريف أن فئة عريضة من الباحثين عن طرق تجنب زيادة الوزن في فصل الشتاء على مواقع الإنترنت المختلفة ينقبون عن المعلومات وهم يسلون أنفسهم بقرمشة محتويات كيس مكسرات أو التهام طبق من فتة القلقاس وشرب كوب من الشوكولا الساخنة مع سكر "دايت" أو مياه غازية "لايت".
في مصر، وسواء أكان المصريون في أعلى الهرم الطبقي، أو قابعين عند القاعدة العتيدة العريضة، يبقى الشتاء مصدراً للبليلة، سواء كانت قمحاً وماء فقط أو قمحاً وقشدة وكنافة ومانغو. كما يبقى الفصل البارد مصدراً لزيادة السعرات وتراكم الكيلوغرامات والتحام الطبقات الاجتماعية في أطباق ومشروبات ترفع راية الدفء الشتوي.