أهم ما نتج عن معركة أيار في غزة، هو انكشاف استراتيجية إسرائيل في تلبية طموحات كتلتها الاستيطانية عبر استنزاف الفلسطينيين في سلسلة معارك صغيرة وطويلة ومضنية. فالاستراتيجية الإسرائيلية قائمة على أساس القضم التدريجي المستمر الهادئ، لاستغلال حالة التراجع والضعف الفلسطينية. فمن معركة في الشيخ الجراح، لأخرى في سلوان، وقبلهما عشرات المعارك الصغيرة في العديد من الاماكن، الخليل ومحيط القدس وغيرها الكثير. كان السياق الوطني الفلسطيني المستنزف بعملية سياسية وإدارية مضنية لا يملك استراتيجية فعالة لمواجهة هذه الاستراتيجية. فصيغ المقاومة الضعيفة أقرب ما تكون إلى استجابات جسم مخدر، يظهر عيوب وسائل وأدوات الحركة الاستيطانية ولا يوقفها.
معركة أيار في غزة، لم تعكس المسار الاستيطاني ولم توقفه، ولكنها نبهت إلى إمكانية تطوير وسائل جديدة لمواجهته. قسر مواجهة استراتيجية الاستيطان على الطرق والوسائل القديمة، تثير التساؤل حول مدى استيعاب حركة المقاومة المدنية الفلسطينية لنتائج معركة أيار، وقدرتها على تطوير وسائل وتكتيكات جديدة في ضوء نتائجها. الوسائل القديمة (عمليات التعبئة الشعبية الفلسطينية) ضد الهجمات الاستيطانية حققت غاياتها في معركة أيار، التي فتحت الطريق لتطوير النضالات المدنية ضد الاستيطان، ونقلها إلى مستوى جديد. والإصرار بعد معركة أيار على عدم تدعيم التعبئة الشعبية الفلسطينية ضد هجمات المستوطنين بوسائل جديدة، هي تضييع للمنجز والفرصة التي دفع ثمنها الكثير.
وحتى يمكن استثمارنتائج معركة أيار، فإن المطلوب الآن هو استعمال المنصات التي أصبحت متاحة، وتطوير وسائل جديدة إضافة إلى تقنيات «دب الصوت» للتعبئة الشعبية الوطنية الفلسطينية، والتي قادت لمعركة أيار. فمع وجوب استمرار التعبئة المحلية ضد هجمات المستوطنين، وإضافة لذلك، يجب استثمار المسارات التي فتحتها معركة أيار. لقد كان هدف تقنيات «دب الصوت» نقل المعارك الصغيرة ضد المستوطنين إلى المستوى الوطني الفلسطيني. ونتائج معركة غزة أتاحت الفرصة وفتحت الأبواب لنقل هذه المعارك إلى المستوى الدولي.
وهذا يتطلب وسائل وطرق عمل جديدة منها: 1- تشجيع السلطة الوطنية في رام الله التي يحتاجها العالم الآن (لمنع تقدم حماس)، لتكون هي رافعة العمل لتدويل المعارك الصغيرة ضد هجمات المستوطنين. وهذا يتطلب وسائل لإشراك أدوات السلطة ومؤسساتها في هذه المعارك، لطرحها في المنصات الدولية. فهجمات المستوطنين ثبت أنها سبب للتصعيد العسكري وعدم الاستقرار، كما أن هذه الهجمات تمنح حماس (منافس السلطة) وقوداً وقوة. 2- إستثمار الزخم الإعلامي والسياسي والدبلوماسي القائم الآن لطرح هذه المعارك في منصات الإعلام العالمي الذي ما زالت شهيته مفتوحة لتناول الصراع في فلسطين، ولكن بمادة إخبارية متنوعة ومتجددة. 3- إشراك مؤسسات وادوات السلطة الوطنية في رام الله لتوظيف التعاون الأردني الإماراتي للحصول على عون (مادي ومعنوي ومؤسسي) للمواطنين الفلسطينيين في مواجهة هجمات المستوطنين. فمع إصرار التحالف الإماراتي على الدخول للمشهد الفلسطيني، وإغلاق بوابات غزة أمامه، يمكن أن يتم إشراكه من بوابة المعركة ضد حركة الاستيطان. 4- تنظيم حملات شعبية لمتطوعين من أوروبا وأمريكا والإمارات واليسار الإسرائيلي، للمشاركة في التصدي المباشر لهجمات المستوطنين. 5- توظيف المنجز القانوني بعدم شرعية الاستيطان، لإقامة دعاوى قضائية ضد أشخاص وهيئات تقدم الدعم للمستوطنين في المحاكم الأوروبية والأمريكية.
إن مواجهة حركة الاستيطان بوسائل وطرق جديدة الآن، لن تنهي الهجمات الاستيطانية، ولكنها ضرورة لامتصاص زخمها الهجومي، ووضعها على خط نار المعارك القادمة في سياق التهيئة لتسوية الصراع. فهناك ما يغري بالقول أن معركة أيار، فتحت الطريق لسلسلة معارك ستفضي إلى تسويات وترتيبات دولية طويلة المدى (وليست نهائية) للصراع.