في ما يزيد عن أربعة أجزاء تقريباً من كتاب مذكراته الفخم، يحشد عبدالرحمن الإرياني، الرئيس اليمني الأسبق، موسوعة من الصور الفوتوغرافية لمراسلاته وأوراقه التي توثّق لحقبةٍ زمنيةٍ كانت الأهم في تاريخ المنطقة العربية خلال القرن الماضي، وكان هو أحد رموزها الكبار وصانعي أحداثها المهمة.
وبين ثنايا الكتب والدراسات التي خصصها مؤرخون وبحاثة عديدون، عربٌ وأجانب، ورفاقُ دربٍ وتلامذةٌ له تناولوا فيها سيرته كان ثمة قسم آخر من الوثائق التي لم تتسع لها مذكراته، أو أنه لم يكن يحوز على نسخ منها تنطوي على قدرٍ كبير من الأهمية التاريخية أيضاً.
كان "القاضي" وهذا هو المصطلح الذي اتفق الجميع عليه لوصف الإرياني، كنايةً عن ثقافةٍ غزيرةٍ ورفيعة في علوم إنسانية متنوعة اجتمعت في شخصه.
كان الوحيد من بين أعلام منتصف ذلك القرن ممن اجترحوا بمواقفهم سِيراً جعلت من تاريخهم جزءاً حميماً من ذلك التاريخ الذي يكاد لا يُروى إلا وتُحكى حياتُهم معه، والأكثر استرعاءاً للإنتباه والدهشة تلكم الصفات التي تحلى بها الرجل الذي كان يعرف (قيمة) الصبر حين يَحسُن الصبر، و(حكمة) العزم حيث لا يكون عنده من الحزم بدٌ.
عندما ذهبت ذات يوم في شهر مايو/ آيار 991 إلى دارٍ في حي "أبو رمانة" الدمشقي للقاء الإرياني كان الهدف هو إجراء حديث تليفزيوني علق عليه عديدون الكثير من الآمال لسماع القول الفصل منه حول خلاف نشب بشأن دستور دولة الوحدة اليمنية الناشئة عام 1990 في ما إذا كان (الإسلام) سيكون هو مصدر التشريع الوحيد أم أحد مصادره باعتبار أن هذا العالِم الجليل كان أبرز من أشرفوا على صياغة نصوص ذلك الدستور.
وبدلًا من عشرين دقيقة للقاء الرئيس الحكيم إمتد اللقاء لأكثر من ثلاث ساعات خلع الرجل خلالها جوخه وعمامته و"توزته" وهي السلاح الجمالي لعلماء البلاد، وأخذني بأناقة جوهره ومظهره إلى وجبة غداء متنوعة بين التاريخ والأدب والسياسة، غير مرتب لها.
كانت تلك أفضل فرصة أتيحت لي في حياتي الصحفية لطرح ما ظل يشغل بالي من أسئلة، وللنبش في أضابير ذاكرة هذا الرجل "الاستثنائي" في أمور أخرى غير تلك التي ذهبت من أجلها إليه، وقد أجاب وقتها على معظم تساؤلاتي، ووعدني بالرد على بعضها في كتاب مذكراته الذي لم يصدر منه حتى الآن سوى جزأين، بينما يجري الإعداد حالياً لإصدار جزأين آخرين تباعاً.
لم يكن الإرياني رجلاً من طرازٍ خاص فقط، لكن المصادفات أيضاً ربما جعلته يبدو إمتيازاً في ذلك، فقد بدأت حياته السياسية مثلما انتهت، بسلسلة مترابطةٍ من المفارقات لم يحدث أن جرت في تواليها وتزامنها واتساقها مع رجلٍ مثله، فكلما حاول الذهاب إلى حياةٍ هادئةً داهمته موجةً عاتية من الأحداث لترفعه عالياً وتنهض به إلى ذروتها.
بعد شهورٍ من الانتظار لصوت المنادي على معتقلي السياسة والاجتهاد والرأي في أحد سجون إمام اليمن الراحل أحمد حميد الدين، كان القاضي قد كتب وصاياه مرات عدة. وكلما تهيأ للخروج استعداداً للاغتسال وصلاة ركعتين قبل الموت، مبتهجاً بالذهاب النهائي إلى ساحة الإعدام بعد صلاة الجمعة، ربما أملاً في الخلاص بالموت من عذابات الترقب المضني شبه القاتل، يقال له في كل مرةٍ "إنتظر"!.
كما يذكر القاضي في مذكراته أن بعض أقاربه كانوا قدِموا لاسترحام (إمام البلاد) بكل الوسائل بما فيها رشوة حراس محبسه الفقراء، فيما كان صديقه العلامة محمد يحيى الذاري قد ألقى بنفسه بين يدي الإمام "شفاعة للإبقاء على حياة عالم من علماء الأمة".
بعد تلك الشهور نودي عليه بالخروج لملاقاة حتفه بعد صلاة الجمعة، وهو الوقت المفضل لدى "أمير المؤمنين لرؤية جماجم منافسيه على السلطة تتدحرج مضرجة بدمائها" كما ذكر لي ذلك أحد أقارب الإمام نفسه.
خرج الإرياني، وفق أكثر الروايات التي توثقت منها، مغتصباً الابتسامة لإغاظة "الطاغية " الداهية الذي أمر السياف فوراً بإعادة سيفه إلى غمده، حتى يحرم الإرياني من رمزية الاستشهاد مبتسماً في مواجهة الموت".
غير أن روايات أخرى تقول إن "الذاري قفز إلى الميدان، ووقف بين الإرياني والسيّاف، صارخاً في وجه الإمام، وطالباً منه أن يكف عن إراقة دماء علماء الأمة".
بعد ذلك حدثت مفارقة من نوع آخر عندما جاء أمر الإمام بتعين الإرياني في أعلى "سلطة شرعية" ليزيد من قناعة الأخير أن الإمام ليس أكثر من "مخلوق سياسي" يعمل بمكرٍ وذكاء نادر لإستغلال (المعنى) الذي يمثله شخص ما في تصور العامة، وذلك لخدمة مشروعه السياسي ليس إلاّ.
وبالمناسبة فالإمام أحمد، وقد بلغ دهاؤه في الحكم أن جعل أهم مقاليد الإدارة الحكومية بيد النابهين من عامة الشعب، ممن لا إمكانية (واقعية) في المذهب الزيدي لأن يصبحوا أئمة أو على رأس الحكم المحصور في سلالة آل بيت رسول الإسلام، فقد أقصى الكثير من أبناء هذه السلالة الطامحين للإمامة والسلطة، ووصل الأمر إلى حد أن أمر (الإمام أحمد الناصر لدين الله ) بضرب عُنُقَي أخويه عبدالله والعباس بحد السيف، فيما تقول بعض الروايات إن شقيقه سيف الحق إبراهيم مات مسموماً في محبسه، وذلك ضمن موجة من الإعدامات التي نجا منها الإرياني كما أشارت إليها مذكراته بالتفصيل، أعقبت فشل ثورتي 1948 و1955، وجرت جميعها دون محاكمة.
ولربما كان الإرياني واحداً من الزعماء القلائل في التاريخ يخرج من حصاره، ويعود من منفاه إلى رئاسة الدولة في بلاده بمساعدة سلطات ذات النظام الذي كان معتقلاً لديه.
كان الإرياني هو السياسي اليمني الوحيد الذي استثناه الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر من السجن عندما قررت القيادة المصرية استدراج قادة المعارضة اليمنية لزيارة القاهرة، ومن ثم وضعهم في السجن بسبب رفضهم لتدخلات بعض القادة العسكريين المصريين في الشأن السياسي لليمن خلال عقد الستينيات من القرن الماضي.
تم إنزال الإرياني حينها في بيت مقبول لإقامته الجبرية، وكان يُسمح له بالذهاب بصحبة حراس منزله لأداء الصلاة في كل يوم جمعة، بينما تم وضع رفاقه الآخرين في عدد من السجون المنيعة كالسجن الحربي، وعوملوا بقسوة شديدة مثل ما أشار إلى ذلك زميله (الأستاذ) أحمد محمد النعمان.
جاءت المفارقة التالية بعد مؤتمر الخرطوم الشهير عقب نكسة يونيو/ حزيران 1967 عندما توصل الزعيمان العربيان المصري جمال عبدالناصر والسعودي فيصل بن عبدالعزيز في منزل رئيس الوزراء السوداني محمد أحمد محجوب إلى تسوية لنزاعهما على الساحة اليمنية تم بموجبها عزل الرئيس اليمني الراحل عبدالله السلال الذي كان في زيارة لبغداد وعودة الإرياني بطائرة مصرية خاصة إلى مطار الحديدة في الـ 5 من نوفمبر/ تشرين الثاني من العام نفسه ليصبح بعد ثلاثة أسابيع وبتوافق وطني عام (رئيساً للمجلس الجمهوري) أعلى سلطة في الدولة.
لكن رئيس الوزراء الأسبق محسن العيني أبلغ بي بي سي أن "الإرياني الذي عاد وزملاؤه إلى الحديدة إلتقوا السلال هناك، وخيروه بين يتعاونوا معه أو أن يذهبوا إلى بيوتهم ليتحمل كامل المسؤولية عن عواقب عودة القوات المصرية من اليمن، لكنه أصر على الذهاب إلى بغداد في طريقه إلى موسكو"، حينها جرى عزله بعد اتفاق بين زعماء البلاد في منزل الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر على اختيار الإرياني رئيساً وتكليف العيني بتشكيل أولى حكوماته.
مفارقة أخرى اختارها القدر أيضاً، ففي عامين متقاربين 1965 و1967 جاء وصول الرجلين المتناقضين إلى السلطة في البلدين الجارين اليمن الجمهوري الضارب بجذوره في أطناب التاريخ والسعودية الملكية النفطية الصاعدة، المتداخلين بدورهما بعلاقات جيو - سياسية معقدة وشائكة.
الإرياني حفاظة القرآن ودارس الرسالات السماوية علماً وفهماً قبل غيب، كوسيلة للحوار، وفيصل .. الفيصل كما كان يظنه والده فيه ويوقن به في نفسه، قاطعاً بسيف أبيه البتار رأس "كل مخالف للدين والعقيدة" كما كان يؤمن.
ربما وُفِّق الباحث النابه لطفي النعمان في اختيار صورة تجمع الرجلين في غلاف كتابه (يلتقيان) ، لكن عنوان موضوعه قد لا يكون بنفس الدقة .. أحسن النعمان عندما استدرك بعد سرده الخصال المشتركة للزعيمين تعليقاً على لقطة فوتوغرافية ظهر فيها فيصل وهو يهدي للإرياني سيفاً، اعتبر النعمان أن فيصل أراد أن يحمل الإرياني "الأداة المثلى لحل ما يتطلب حد السيف، وهنا ما يبرز الاختلاف بين نهجيهما وشخصيتيهما .. بين المحارب والمحاور ، وبين الحازم والعالم".
ويضيف النعمان قوله: " لقد قوي الإرياني على حمل السيف، لكنه لم يقو على (البتر) به، أما فيصل فلا يضعف أو يلين متى تيقن من استحقاق البتر".
كانت هناك مفارقة لا تقل غرابة وصعوبة في تعامل الإرياني مع جار عربي غني (رجعي) في الرياض من منظور أخ يمني يساري (متشدد) في عدن من وجهة نظر الجيران في الشمال، وفي الوقت نفسه كان ثمة تأثير عميق وامتدادات في الداخل اليمني لـ (حزب البعث العربي الإشتراكي) بشقيه العراقي والسوري، وكل هذا في ظل اشتداد حدة الاستقطاب الدولي خلال الحرب الباردة لأطراف المشهد اليمني بين المعسكرين الشرقي بقيادة الإتحاد السوفياتي والغربي بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية.
لقد دفع الإرياني في النهاية ثمن عجزه كبشر على تحمل مخاطر وضغط التعامل مع كل تلك القوى المتضادة والأطراف المتضاربة إلى ما لا نهاية وشعر كما قال بأن "إناءه إمتلأ بما يكفي وأن على الآخرين الإتيان بإناءٍ آخر".
ولم يحدث لزعيم في التاريخ العربي على الأقل أن تتم الإطاحة بحكمه بوداع رسمي حارٍ ومؤثر كالذي جرى للإرياني بعد نحو سبعة أعوام من رئاسته، فقد احتشد كبار رجال الدولة مدنيين وعسكريين لتوديعه في مطار تعز في الـ 18 من يونيو/ حزيران 1974 بعد خمسة أيام من الإنقلاب عليه.
وكانت المفارقة المقابلة أنه كان أول رئيس معزول في التاريخ أيضاً يحظى باستقبال رسميٌ خاص من قبل رئيس الدولة التي تم نفيه اختيارياً إليها، وذلك عندما كان الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد على رأس مستقبليه في مطار دمشق في نهار ذلك اليوم أيضاً.
عاش الرجل أفضل منافيه الاختيارية في العاصمة دمشق وقبلها في مدينة طرطوس الساحليةالسورية ومنتجع "صلنفة" في ريف محافظة اللاذقية خلال عدد هام من منعطفات الحياة السياسية للرجل حتى قبل استقالته، حيث كان فضَّل سوريا مكاناً لاستراحاته ليعتكف فيها غير مرة عن ممارسة مهامه الرئاسية خلال عدد من الأزمات السياسية.
وقد تلقى عقب استقالته دعوة من الرئيس المصري الراحل أنور السادات للإقامة في مصر لكنه أثر البقاء في هذا البلد ليظل بعيداً عن مصر بسبب استضافتها الدائمة لمجتمع اليمن السياسي الصاخب بأحزاب السلطة والمعارضة معاً منذ خمسينيات القرن الماضي وحتى اليوم كذلك حتى بعد سنوات من رحيله.