جفرا نيوز -
جفرا نيوز- كتب د. عاصم منصور
في نهاية العام 2017، وصدف أنها السنة الأولى في حكم الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، يظهر حساب على منصات التواصل الاجتماعي لشخصية غامضة تطلق على نفسها اسم” Q”، وتزعم انها تمثلُ شخصا ذا رتبة رفيعة في الجيش الأميركي، وهذه الشخصية تتحدث عن عصابة تحاول فرض سيطرتها على أميركا والعالم، تترأسها شخصيات من الحزب الديمقراطي، مثل الثنائي كلينتون، وأوباما، وقيادات من الكونجرس الأميركي. يعاونهم في ذلك الأمر، اعضاء في الدولة العميقة، وشخصيات إعلامية، وهوليوودية مثل أوبرا وينفري، وتوم هانكس وغيرهم من نجوم هوليوود، تمولهم مجموعة من أصحاب المليارات مثل جورج سوروس رجل الأعمال المعروف بدعمه للسياسات الليبرالية. وهذه الشخصيات المشهورة وفقاً لشخصية "Q” هم من عبدة الشيطان، ومن المتاجرين بالأطفال، ولا يكتفون بالاعتداءات الجنسية على الأطفال، بل يقومون بقتلهم ويشربون دماءهم ضمن طقوسهم الشيطانية. وفي الجانب الآخر المقابل من هذا المشهد، نجد ترامب البطل والمخلص الذي يكشف حقيقة هؤلاء الأشرار ويقف في وجههم، تسانده الشخصية "Q”، ومجموعة من الوطنيين في الجيش وأجهزة المخابرات في خوض معارك خفية للقضاء على هذه العصابة تنتهي فيها بانتصار الخير على قوى الشر!
وفي بضع سنوات نجحت حركة ” Qanon”، او اتباع ” Q "، في تشكيل شبكة ضخمة من الأفراد والحسابات، ومن مختلف الأعمار والمستويات الاجتماعية والعلمية وأصبحوا يمتلكون تأثيرا كبيرا في الحزب الجمهوري، فقد أوصلوا عددا من اعضائهم ومناصريهم الى الكونجرس. وأصبحت نظرياتهم تُناقش في وسائل الاعلام، ويتحدث بها السياسيون، ويعيد بعض تغريداتهم الرئيس ترامب وبعض المقربين منه، فقد خلص استقصاء جرى لاستطلاع آراء الاميركيين حول هذه الحركة في شهر ايلول الماضي الى أن نصف الأميركيين قد سمعوا بها وخمس هؤلاء ينظرون اليها بإيجابية.
لقد شكلّت نتائج الانتخابات الأخيرة، وخسارة ترامب صدمة لأنصار هذه الحركة. فقد كانوا يصرون على ان ترامب سيكتسح هذه الانتخابات، ويكمل دورته الرئاسية الثانية، وينهي فيها معركته مع اهل الشر حسب السيناريو المعد. وهذا دفع بهم الى انتقالهم الى مرحلة جديدة من العنف حيث كانوا من الداعين للمظاهرة الشهيرة:”مسيرة إنقاذ أميركا”، والتي ضمت عشرات الآلاف من أنصار ترامب احتجاجاً على نتائج الانتخابات الرئاسية، والتي كان من المخطط فيها ان يفرضوا سيطرتهم على مبنى الكونجرس، وأن يقوموا باحتجاز اعضائه بانتظار الدعم الموعود من الجيش والحرس الوطني، وكادوا ينجحون في الجزء الاول من المخطط، لكن في النهاية تم تفريقهم، ولم يأت الدعم الموعود.
لا شك أن خسارة ترامب للانتخابات الرئاسية أدت الى إحباط الكثيرين ممن غرر بهم، وممن آمنوا بـ”Q” وبنظرياته الغريبة، ووعوده الواهمة، وتم اغلاق حساباتهم على وسائل التواصل الاجتماعي، ومطاردة اعضائهم المشاركين في الهجوم على مبنى الكونجرس. ولكن هذا لم يمنع كثيرين من اتباعه من الاستمرار بالإيمان بالنسخة الجديدة من نظرية المؤامرة. ولم تقتصر نظريات هذه المجموعة فيما يتعلق بالشأن السياسي، فقد وفرت لهم جائحة كورونا وحالة الشك التي تعتري البعض حيالها وفقدان الثقة بالسياسيين والحكومات تربة خصبة لينشروا تفسيرهم التآمري لها وليثيروا مزيداً من الشكوك حول نجاعة المطاعيم، والتي تهدف في نظرهم الى تغيير جينات البشر للسيطرة عليهم من قبل قوى الشر.
إن شخصية”Q” لا تمثل حالة منفردة: ففي كل مجتمع ” كانونه” أو "Q” الخاص به، وان تعددت الروايات والاهتمامات. فقد وفرت وسائل التواصل الاجتماعي غير المنضبطة وسيلة مهمة لنشر الأفكار الشاذة والتفسير التآمري لمختلف الأحداث التي تمر بنا. وخطورة هذه الحركات تكمن في انتقالها من العالم الافتراضي الى الواقع. فتأثيرها اليوم أصبح واضحا في إحجام كثيرين عن تلقي المطاعيم وعدم الالتزام بوسائل الوقاية من الفيروس وغيرها.
وتكفي جولة قصيرة لتصفح، ما يبث ويتناقل على منصات وسائل التواصل الاجتماعي العربية لنخلص الى أننا أمام نسخة معربة من” Q "، تتلقط كل ما تنتجه اللغات الأخرى من فضلات فكرية وآراء شاذة، وتضفي عليها شيئا من النكهة المحلية ويتم تناقلها بقالب ساخر أو جاد على نطاق واسع.