جفرا نيوز - غالبا ما اشتكى الرئيس الأمريكي المنتهية ولايته دونالد ترمب من قوة العملة الأمريكية، مشيرا إلى أن تلك القوة مكنت كثيرا من منافسي الولايات المتحدة، خاصة الصين والاتحاد الأوروبي وتحديدا دول منطقة اليورو الـ19 وعلى رأسها ألمانيا من تعزيز ميزانها التجاري عبر زيادة صادراتها السلعية والخدمية، وخفض وارداتها على حساب الولايات المتحدة.
مع ذلك وعلى الرغم من الشكوى الدائمة للإدارة الأمريكية من هذا الوضع، فإن عديدا من الخبراء يعتقدون أن الإجراءات، التي اتخذها البيت الأبيض خلال الأعوام الأربعة الماضية، رسخت من قوة الدولار، حيث إن التخفيضات الضريبية وخفض معدلات البطالة بشدة منح مزيد من القوة للعملة الأمريكية على المستوى الداخلي ومن ثم في الأسواق العالمية، وعلى الرغم من انخفاض مؤشر الدولار- مقياس للعملة مقابل ستة من العملات الرئيسة الدولية- منذ بداية العام الجديد، إلا أن التراجع يعد طفيفا، مقارنة بالمكاسب، التي حققها في الأعوام السابقة.
الرئيس ترمب يغادر منصبه وقد استقر الدولار عند مستويات أعلى في المتوسط بنحو 18 في المائة بالنسبة للدولار من فترة ولاية الرئيس أوباما البالغة ثمانية أعوام، وذلك وفقا لمؤشر الدولار الأمريكي المرجح للتجارة لمجلس الاحتياطي الفيدرالي.
لكن المشهد المستقبلي للعملة الأمريكية يبدو من وجهة نظر كثير مرشحا للتغير بامتياز خلال فترة الرئيس المقبل جو بايدن، إذا ما التزم ببرنامجه الاقتصادي، الذي أعلنه خلال حملته الانتخابية.
الخبير المصرفي ريك آرثر يعتقد أن الدولار سيشهد انخفاضا في قيمته إذا أمضى بايدن قدما في برنامجه الاقتصادي، والذي يتناقض بشكل صريح مع برنامج ترمب الاقتصادي، الذي خفض فيه معدل ضريبة الشركات بشكل حاد من 35 في المائة إلى 21 في المائة، بينما أعلن بايدن أنه سيرفعها إلى 28 في المائة.
ويقول إن "جوهر البرنامج الاقتصادي لبايدن، سحب الامتيازات التي حصلت عليها الشركات الأمريكية الكبرى خلال فترة حكم الرئيس ترمب، ومن ثم إعادة تشكيل المشهد الضريبي في الولايات المتحدة، وحتما سيؤدي هذا إلى زيادة العبء المالي على الشركات الأمريكية، والتراجع عن كثير من السياسات الصديقة للأعمال، التي اتخذها الرئيس ترمب".
ويؤكد أن بايدن سيتراجع عن عديد من أشكال الصراع التجاري بين الولايات المتحدة والعالم الخارجي التي سادت في عهد ترمب، وسيتراجع غالبا عن بعض التعريفات الجمركية، التي فرضتها الإدارة السابقة على الواردات القادمة من الصين والاتحاد الأوروبي، وسيترجم ذلك في مزيد من الواردات الأمريكية من الخارج، وبالتالي زيادة المعروض العالمي من الدولارات.
مع هذا يرى عدد آخر من الخبراء أن العوامل الضاغطة على قيمة العملة الأمريكية في المرحلة المقبلة، تتجاوز الوعود الاقتصادية للرئيس الجديد جو بايدن، وأن أسعار الفائدة والتداعيات الناجمة عن جائحة فيروس كورونا، ستدفع العملة الأمريكية للانخفاض، حتى ولو كان الرئيس الأمريكي دونالد ترمب قد فاز بالانتخابات الرئاسية.
فأحد أبرز الأساليب، التي لجأت إليها إدارة الرئيس ترمب لمواجهة التداعيات الاقتصادية السلبية لجائحة كورونا، تمثل في سياسة التحفيز المالي، وضخ مليارات الدولارات في الاقتصاد الأمريكي. وقدر ما ضخ من أموال في فترة الرئيس ترمب بنحو أربعة تريليونات دولار، وهي أكبر حزمة مساعدات في التاريخ الحديث.
من جهته، أكد بايدن أنه سيمضي قدما في تلك السياسات، حيث يتوقع أن يضخ الديمقراطيون نحو ثلاثة تريليونات دولار إضافية، وسيترجم هذا كله في شكل زيادة المعروض من العملة الأمريكية، ما سيؤدي إلى انخفاض قيمة الدولار.
ويشير الباحث في بنك إنجلترا إل. دي. كريس إلى أن ذلك الضخ المالي سيؤدي حتما إلى ارتفاع الأسعار، حيث يتم تسليم الأموال مباشرة إلى الأشخاص والشركات، ولن يكون أمام المجلس الفيدرالي الأمريكي غير رفع أسعار الفائدة لكبح جماح التضخم، لكن هذا لن يحدث.
ويقول ، إن "المتوقع أن ينمو الاقتصاد الأمريكي هذا العام بين 5 و6 في المائة، وهذا المعدل لم يتحقق منذ 1984، في الوقت ذاته نما عرض النقود في الولايات المتحدة 22 في المائة على أساس سنوي، وقد قام الفيدرالي الأمريكي بتغيير معدل التضخم من 2 في المائة إلى أن يكون "في المتوسط" 2 في المائة، ومن ثم فإن الفيدرالي الأمريكي لن يكون ملزما برفع أسعار الفائدة إذا تجاوز التضخم 2 في المائة، لأنه بات يتحدث الآن عن متوسط التضخم وليس عن قيمة التضخم في لحظة ما".
ويضيف، "إبقاء أسعار الفائدة منخفضا هو الاتجاه الذي سيسير عليه الاقتصاد العالمي والاقتصاد الأمريكي خلال الفترة المقبلة،
وسيكون لهذا تداعيات سلبية على الطلب على الدولار، حيث إن المستثمر سيجد عوائد أفضل في مكان آخر، ومن ثم مع زيادة المعروض من الدولارات نتيجة الضخ المالي المتواصل من قبل الإدارات الامريكية، وتراجع الطلب في الوقت ذاته نتيجة انخفاض أسعار الفائدة سيؤدي إلى تراجع قيمة العملة الأمريكية".
وتشير تقديرات بعض الخبراء إلى أن التوصل لمزيد من اللقاحات لمكافحة فيروس كورونا قد يؤدي لتراجع قيمة الدولار هذا العام 20 في المائة، فالدولار ملاذ آمن بالنسبة لكثير خاصة صغار المستثمرين في أوقات التوتر والأزمات، ومع تنامي الآمال بإمكانية التصدي للوباء، فإن الانتعاش الاقتصادي قد يشجع المستثمرين للبحث عن رهانات وقنوات استثمارية أخرى أكثر جاذبية.
لكن الانخفاض 20 في المائة في عام واحد يعد تحركا كبيرا للغاية بالنسبة لعملة في ثقل الدولار، وهو ما يجعل الخبير المالي في بورصة لندن سميث سلاذي إلى القول إن "انخفاضا بهذا الحد لن يكون في مصلحة الاقتصاد العالمي، نسبة التراجع المرجحة بنهاية العام تراوح بين 3 و6 في المائة، وحتى لو كان أداء الاقتصاد الأمريكي جيدا، فإن الدولار سيضعف بسبب بحث المستثمرين عن عوائد مالية أعلى خارج الولايات المتحدة، وخروجهم من الملاذات الآمنة التي احتموا بها طوال فترة الجائحة".
لهذا يتوقع أن تواجه إدارة بايدن في الفترة المقبلة أوضاعا مختلطة بشأن الدولار، فالعملة الأمريكية القوية قد تكون مؤشرا لثقة الأسواق الدولية بالاقتصاد الأمريكي، ولا شك أن الإدارة الأمريكية ستكون في حاجة إلى تلك الثقة، خاصة في ضوء الانقسام السياسي، الذي تشهده البلاد، لكن من ناحية أخرى، قد يعني الدولار القوي رياحا غير إيجابية للشركات الأمريكية وقدرتها التصديرية، وهو ما لا ترغب إدارة بايدن فيه بالتأكيد.
هناك عامل آخر قد يلعب دورا سلبيا أيضا بشأن قيمة الدولار، ربما لا يكون حاليا شديد التأثير، ولكن لا يجب استبعاد أن يترك بصمته على وضعية الدولار خلال أعوام الإدارة الأمريكية الجديدة، فسياسة الضخ المالي، سواء من قبل إدارة ترمب أو المتوقعة من قبل الإدارة الجديدة، تعني عمليا زيادة الدين الحكومي الأمريكي، والمتمثل في الأموال الفيدرالية المستخدمة لدعم الاقتصاد لمواجهة جائحة كورونا.
وارتفاع مستويات الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي وتجاوزه 100 في المائة، سيلقي بثقله على العملة الأمريكية وقيمتها، وربما لن يكون أمام الولايات المتحدة في لحظة ما من سبيل لمواجهة الوضع إلا عبر طبع مزيد من الدولارات، ما سيترجم إلى تراجع في قيمة عملتها الوطنية ذات الطابع الدولي.
وفي الواقع، فإن تلك التوقعات قد تنعش آمال عديد من الاقتصادات الناشئة، التي قد يصب انخفاض الدولار في مصلحتها في بعض جوانبه، فأغلب الديون الخارجية لتلك الاقتصادات مقيمة بالدولار، وتراجع قيمة العملة الأمريكية يمكنها من سداد ما عليها من ديون وفوائدها بسهولة نسبيا، مقارنة بالصعوبات والتحديات، التي تواجهها عندما ترتفع قيمة الدولار.
وربما يكون العام الجاري أكثر ملاءمة لعملات الأسواق الناشئة ككل، خاصة في مواجهة الدولار، وربما يعود ذلك في جزء منه إلى انخفاض مؤشر الدولار، لكنه يعود أيضا إلى احتمال تبني الإدارة الجديدة نهجا أقل تشددا من سابقتها، فيما يتعلق بالتعريفات الجمركية، ولا شك أن الاقتصادات الناشئة ذات الصلة القوية بالاقتصاد الأمريكي مثل المكسيك وعديد من دول أمريكا الجنوبية ستخرج من هذا الوضع الجديد بوصفها أكبر الرابحين.