جفرا نيوز -
جفرا نيوز - ( أبو نشأت ) هى كُنية طاهر المصري رئيس وزراء الأردن الأسبق، ورئيس مجلس النواب الأسبق، ورئيس مجلس الأعيان الأسبق ، وهو بذلك صاحب ( الرئاسات الثلاث ). لقد عرفتُ الرجل قبل أن ألتقيه، كان حاضراً فى أحاديث الساسة الأردنيين، شجعني ما سمعتُه عن الرجل أن ألتقيه ، كان لقاؤنا الأول فى بيته يوم الثلاثاء 11 مارس 2008 وفى تقديري أن هذا اللقاء كان بداية علاقة تطورت فى مابعد الى صداقة وطيدة ربطتني بدولة طاهر المصري، كسبتُ من خلالها معرفة عميقة بالحياة السياسية الأردنية، وذلك من خلال العديد من اللقاءات التى جرت بيننا.
صديقي أبو نشأت شخصية وطنية تحظى بقبول واحترام مجتمعي واسع ، وهى ميزةٌ استثنائية فى الحياة السياسية الأردنية، حدثني سياسي أردني كبير ، يختلف مع المصري ، قائلاً : "إنني أحترمُ الرجل لثباته ، ودفاعه عن قناعاته، وصبره وقدرته على إمتصاص الغضب ” ولم ينسى الأردنيون ما قاله فى حقه الملك الحسين : ” ما تعاملتُ مع إنسان أشرف منك يا طاهر ” .
– حدثني أبو نشأت عن مرحلة التكوين قائلاً : "ولدتُ فى نابلس ( جبل النار ) ، من عائلة عملت بالتجارة ، فى طفولتي شاهدتُ الآلاف من اللاجئين الفلسطينيين يتكدسون فى المدارس والمساجد والخيام، ولقد حُفرتْ تلك الصورة فى ذاكرة الطفل الصغير ، وكان الملك عبدالله الأول فى ذلك الوقت على وشك إعلان وحدة بين الضفة الغربية والضفة الشرقية ، وفى مرحلة الإدراك كانت الثورة المصرية بقيادة عبدالناصر ، الذى كان له تأثير كبيرا على جيلي فى تلك الفترة ، التى عُرفت بمرحلة المد القومي ، وتولى الحكم فى الأردن الملك الحسين الذى قاد عملية تطهير الجيش الأردني وأخرج ( جلوب باشا ) ، وهكذا وجدتُ نفسي فى خضم مشاعر وطنية وقومية متأججة .
– يرى دولة طاهر المصري أن حرب حزيران 1967 ، قد أحدثت تحولاً عميقاً فى مسار تفكيره ، وعن ذلك يقول : ” كم كانت سعادتي كبيرة عندما سمعت بإن الجيش المصري قد هاجم اسرائيل، وكنت أتابع إذاعة صوت العرب وهى تعلن إسقاط عشرات الطائرات الاسرائيلية ، وتحلّق حولي الأصدقاء في شقتي فى عمان نتابع الأخبار ، ليتبين لنا فى ما بعد بأن الأمور لم تجر كما كنا نشتهي، أصبتُ بخيبة أمل ، وأستمعتُ الى عبدالناصر يلقى خطابه فى 10 حزيران 1967 ويعلن أستقالته ، بكيتُ يومها بُكاءاً مُراً ، حيث أحسستُ فى تلك اللحظة بأن ما كنتُ أؤمن به قد انهار أمامي بشكل مُفاجئ، وأحسستُ حينها بولادة الشخصية الناقدة ؛ التى لم تعد تقبل الأمور على علاتها”.
– تبقى أحداث أيلول 1970 محطة فارقة فى تاريخ العلاقات الأردنية الفلسطينية ، وعن ذلك حدثني أبو نشأت قائلاً : ” لقد آمنتُ بأهمية العمل الفدائي ولكن ومع كل أسف بدأت مظاهر الإنحراف والفوضى تظهر فى شوارع عمّان من قبل الفدائيين ، تسامح الناس كثيراً معهم ، وتسامحت الدولة أكثر ، ولعل ذلك نتيجة الإحباط الذي شعر به الناس بعد هزيمة 67 ، وانسحاب الجيش الأردني وضياع القدس، (…).
– الأحداث السياسية المتلاحقة دفعت بطاهر المصري أن يتجه صوب العمل السياسي ، المحطة الاولى كانت عبر بوابة البرلمان الأردني ، وذلك عند شغور مقعد نابلس فى البرلمان بوفاة النائب عبدالله الخطيب، وتزامن ذلك مع تعديل الدستور ، بحيث يُسمح لمجلس النواب بإختيار شواغر الضفة الغربية ، لأن الاحتلال أصبح عائقاً أمام الانتخاب ، وعن تقدمه لشغل الموقع يقول : ” لقد كنتُ على ثقة بأن أرث عائلتي السياسي سيكون داعماً ليّ ، بالإضافة الى ذلك أجريتُ اتصالات مع : أحمد اللوزي رئيس الوزراء، زيدالرفاعي المستشار السياسي ، عدنان ابوعودة وزير الاعلام ، كامل عريقات رئيس مجلس النواب ، مضر بدران مستشار الأمن القومي ، ومسؤول عن الضفة الغربية ، قابلتهم جميعهم ، وتحدثتُ معهم فى الأمر ، ثم ذهبتُ الى نابلس لكي أستشير الأهل ، وبعد رحلة شاقة أستمرت 15 ساعة ، قابلتُ والدي وقد كان مريضاً، أخذتُ رأيه، قال ليّ: المهم مستقبلك، وتوكل على الله ، وسألت عمي حكمت وهو السياسي فى العائلة، الذى رفض الأمر على خلفية أحداث أيلول، ووافق أعمامي الآخرون على ذلك، وفى رحلة العودة إلى عمان وبينما كنتُ أستمع الى الراديو فى سيارة الأجرة، وفى نشرة أخبار الساعة الثانية ظهراً ، سمعتُ أنني أنتخبتُ نائباًعن نابلس ، وهكذا وأنا فى الطريق أصبحتُ نائباً”.
– لم يمض أبو نشأت فى هذا المقعد سوى ثلاثة أسابيع، ليتصل به الديوان الملكي ويحدد له موعداً للقاء زيد الرفاعي ، وعن ذلك يقول : "كانت المفاجأة أنه عرض عليّ أن أكون وزيراً فى حكومة كٌلف بتشكيلها ، قلتُ له : أصبر عليّ لأستجمع أفكاري، ماهى الوزارة ؟ قال : وزارة شؤون الأرض المحتلة وهى وزارة جديدة، سألتُه: من معنا ، أجاب : وبعدين فيك، اللي أكبر منك ما سأل، لقد صرتُ وزيراً وعمري احدى وثلاثون سنة، وذهبتُ لأداء القسم بشعر كثيف ، وتشكيلة ملابس زاهية ملفتة للنظر ولازلتُ أذكر نظرات الملك الحسين الى قيافتي ” .
– المهمة لم تكن سهلة بالنسبة للوزير الأردني الشاب ذو الأصول الفلسطينية ، لقد مثلت قمة الرباط تحدياً كبيراً ، وعن ذلك حدثني قائلاً : ” لقد حضرتُ قمة الرباط ، وكان التآمر على الملك الحسين وعلى الوحدة بين الضفتين واضحاً…..
– لم يمض وقتٌ طويل حتى عاد أبو نشأت الى العمل العام ، ليدخل عالم الدبلوماسية ويعين سفيراً لدى أسبانيا ، وكما ذكر ليّ بأنها تجربة رائعة ، تعلم منها الكثير ، فقد جاءت متزامنة مع التحول الديموقراطي فى أسبانيا : ” رحل فرانكو ، بدأت مراسم تنصيب خوان كارلوس ، كان فرانكو ديكتاتوراً وزعيماً قوياً ، مُمسكاً بكل الأمور ، مدعوماً من الجيش ، ولكنه قرر ان ينقل السلطة بشكل سلس ، وبالفعل أستطاع خوان كارلوس وبمساعدة زوجته صوفيا أن يدركوا أهمية التحول ، وأصبحوا ملوكاً دستوريين مثل بقية ملوك أوروبا ، وليتحول الحكم تدريجياً من الحكم الديكتاتوري الى الحكم الديموقراطي ، وقد نجحت أسبانياً نجاحاً كبيراً، وأصبح خوان كارلوس من أقوى ملوك أوروبا ، تجربةٌ رائعة تعلمتُ منها الكثير ” .
– تحول أبو نشأت الى محطة دبلوماسية اخرى ، حيث عُين سفيرا. لدى فرنسا ومندوباً للاردن لدى اليونسكو ، وخلال السنوات الخمس التى أمضاها سفيراً لبلاده فى باريس ، ربطته علاقة طيبة بالرئيس الفرنسي جيسكار ديستان وعن ذلك حدثني قائلاً : ” ذات يوم تلقيتُ دعوة من الرئيس الفرنسي لمصاحبته فى رحلة صيد ، علماً بأنني لا أعرف شيئاً عن عالم الصيد ، ولكنها كانت فرصة أُتيحت للحوار مع الرجل، والذي لم يخفي تأييده للحقوق الفلسطينية ، ودعمه للاعتدال الأردني، لفت نظري أستغرابه لموقف العرب من القرار 242 فهو لايراه نهاية الحل، ويقول انه بداية ويجب أن يبدأ العرب ، ولقد تردد الملك الحسين على باريس كثيراً وذلك خلال فترة وجودي ، وربطته علاقة جيدة بالرئيس ديستان ، ولقد بُذل جهد لإقناع الرئيس الفرنسي أن يزور المنطقة ، وبالفعل تمت الزيارة، وأُلتقطت للرئيس صورة فى منطقة أم قيس ، وهو ينظر الى الضفة الاخرى بالمنظار ، أستخدم اللوبي اليهودي فى فرنسا هذه الصورة أثناء الانتخابات الفرنسية ، حيث تم تقديمها للرأي العام بأن الرئيس يقف فى موقع عسكري أردني ويحمل منظاراًعسكرياً ينظر من خلاله الى اسرائيل ، وأعتبر ذلك موقفا معادياً لها ، وكان للصورة تأثير كبير ، ولقد خسر الرئيس ديستان الانتخابات، ولم ينس الرجل العلاقة التى ربطتنا ، فقد دعاني على غداء فى بيته بعد أن ترك الرئاسة” .
– انتقل أبو نشأت للعمل كسفير لدى بريطانيا ، أمضى فى هذا الموقع ثلاثة شهور فقط ، ليعود بعدها الى وضعه البرلماني السابق كنائب، وذلك بعد إعادة مجلس النواب عقب التجميد ، وفى هذه الأثناء استقال مضر بدران ، وكلّف الملك أحمد عبيدات مدير المخابرات السابق بتشكيل الحكومة ، ليُعرض على أبو نشأت منصب وزير الخارجية : ” عندما تم اللقاء بيني وبين أحمد عبيدات فى وزارة الداخلية، قدم ليّ عرضه لتولي وزارة الخارجية ، لكني رفضتُ ذلك، قال : أتريد الاعلام ؟ قلتُ له : لا أريد وزارة ، أفضل العودة الى لندن وأستمر هناك ، قال ليّ : هل يُعقل أن ترفض وزارة الخارجية وتبقى سفيراً ؟ فى هذا الأثناء كان الملك الحسين يعالج داخل المستشفى، وجاءت دعوة للقاء الرئيس ، ولم أعرف أيهم ؟ هل هو الرئيس المستقيل أو الرئيس المُكلف ؟ ذهبتُ الى الرئاسة وإذا بنا نتحرك جميعاً الى المستشفى، لنحلف اليمين وأصبحتُ وزيراً للخارجية” .
– بدأ الملك الحسين يضع الترتيبات لمرحلة جديدة ، ويُعد العدة لإنطلاق قطار المفاوضات ، الملك الخبير بتعقيدات وتفاصيل القضية الفلسطينية ، أدرك أن الوقت مناسب لأن يكون طاهر المصري رئيساً للحكومة ، استلم أبو نشأت الحكومة والأردن فى حالة أقرب الى حالة الحصار ، دول الخليج غاضبة من الموقف الاردني، على خلفية الاجتياح العراقي للكويت، ورغم هذه الظروف الأستثنائية الصعبة ، أكد ليّ أبو نشأت : ” لقد أنجزنا قوانين مهمة ، ألغينا الأحكام العرفية ، أصدرنا قانون جديد للمطبوعات ، اصدرنا قانون احزاب منفتح الى حد ما ، أنهينا عمل لجنة الأمن الاقتصادي التى كان يتم اللجؤ إليها لتمرير ما يصعب تنفيذه قانوناً ” .
– بدأ الاعداد لمؤتمر مدريد وتشكل الوفد الأردني الفلسطيني المشترك للمفاوضات ، وقبلت الأطراف بذلك ، وقد انعكس ذلك على الداخل الأردني ، وبالتحديد فى داخل مجلس النواب ، وفى إطار حراك سياسي متعدد الأسباب ، واجهت حكومة طاهر المصري محاولات لحجب الثقة، وعن ذلك حدثني قائلاً : "أشهد بأن هذا المجلس كان من أحسن وأنظف المجالس، وعندما علمتُ بأنه تم جمع خمسين توقيعا لإعادة طرح الثقة فى حكومتي ، ذهبتُ الى الملك الحسين عارضاً استقالتي ، لقد رفض الرجل ذلك، وهذا يعني أن الملك قد يضطر الى حل البرلمان ، طلبتُ من الملك أن يحافظ على هذا الوليد الديموقراطي، فمن الأفضل أن تذهب حكومة وتأتي حكومة ، حفاظاً على صورة الأردن وصورة العرش ، وتم الاتفاق على الاستقالة ، وجاءت لحظة السلام على الملك وكانت لحظة عاطفية مؤثرة ، التفت الملك نحوي قائلاً : "أشهد الله أني ما تعاملتُ مع أشرف منك ، لقد تأثرتُ تأثراً شديداً وحبستُ دموعي بصعوبة ، ورأيتُ فى ذلك خروجاً مشرفاً ليّ ولحكومتي ".
– لقد كان دولة طاهر المصري قريباً من الملك الحسين ، حظي بثقة الملك ، وبقرب الملك ، ولقد سألته ذات مرة وأنا الواثق من قدرته على معرفة الرجال، كيف وجدت هذا الرجل ؟ يقول المصري : ” الملك الحسين يحمل فى داخله شعورا دون أن يبوح به ، بأنه جاء ملكاً وله مهمة ، وريث للثورة العربية الكبرى ، كان مؤمناً بها ، الرجل يرتبط عاطفياً ونفسياً بجده الملك عبدالله، الذى كان يشعر بظلم نتيجة لحصوله على شرق الأردن فقط، الملك الحسين هو الآخر كان يشعر بأن قدراته أكبر من المكان ، كان يستطيع أن يدير منطقة أوسع بهدف الوحدة وليس بهدف السلطة ، لقد أثرت فى شخصيته حادثة اغتيال جده وهو بجانبه فى الأقصى ، وتألم كثيراً لخسارة القدس، ومات وفى قلبه غُصة ، كان الملك يكره الضعف والضعفاء ، حريصاً على الظهور بشخصية قوية ، كان انساناً مهذباً محترماً بشكل عجيب "، وفق رصد مدارالساعة.
– لقد جسد أبو نشأت فى حواراته معي حالة وحدوية ، حيث لم أرى خطأ فاصلاً بين ماهو أردني وماهو فلسطيني ، بل كان طرحه وحدوياً بإمتياز على مستوى الأمة ، فما بالك على مستوى الضفتين ، وهو يُرجع ذلك الى : "تربيتي كانت قومية ، الملك عبدالله الاول كان يحل فى بيت عمي الحاج معزوز فى نابلس ، كنا صغاراً ننتظر الدنانير الخمسة هدية العيد ، يوم استشهاد الملك عبدالله كان الملك فى بيت عمي، اراد الملك أن يذهب للصلاة فى الأقصى ، لا زلت أذكر المشهد حينما طلب منه عمي وأبي أن يبقى للصلاة والغداء معنا ، لكن الملك أصر على الذهاب، ودعنا الملك عند نهاية حدود متصرفية نابلس ، وبالتحديد فى منطقة اللبُن، ذهب الملك للصلاة ، وسمعنا خبر الاغتيال من خلال الراديو ، لقد كان لهذا الحدث الأثر العميق فى نفوسنا ” .
– يُنظر الى دولة طاهر المصري بأنه ركيزة أساسية ورافعة وطنية فى المشهد السياسي الأردني، حيث يحظى بإحترام كبير على كلتا الضفتين لمواقفه الوطنية ورؤيته العقلانية المتوازنة . أعتزُ كثيراً بالعلاقة والصداقة التى ربطتني بأخ عزيز وصديق حميم وقامة وطنية ، لصديقي أبو نشأت كل التقدير والاحترام .