جفرا نيوز -
جفرا نيوز - مهدي مبارك عبدا لله
لقد باتت شعارات الثورة الفرنسية الأساسية تتأرجح في تحدي حرج ولم يعد مقبول بعد هذا وصف فرنسا بأنها منارة عالمية للحرية ومفخرة تقليدية للديمقراطية وبلد الفلاسفة والمفكرين التقدميين المتنورين بعدما أصبحت الحريات وكثير من الحقوق المدنية والسياسية وواقع الحياة الاجتماعية في خطر داهم عقب محاولة الدولة فرض مشروع قانون " الأمن الشامل " الذي يمثل انتهاك صارخ وفاضح للحريات العامة بما يهدف من إطلاق بلا حدود ليد الشرطة بمظلة حماية قانونية ولهذا السبب اجتاحت إنحاء مختلفة من البلاد المظاهرات والاعتصامات واسعة النطاق رافضا لمشروع القانون وما صاحبها من إعمال عنف وشغب وإحراق وتحطيم للمركبات وتكسير لواجهات المحلات التجارية ومواجهات دامية ومصادمات متواصلة مع رجال الأمن والذين استخدموا بشكل مفرط القنابل المسيلة للدموع وضربوا المتصاهرين بالهراوات الثقيلة
لقد جاء هذا القانون في توقيت دقيق وحساس خاصة بعد جملة من التصريحات الكريهة والعنصرية التي أطلقها الرئيس امانويل ماكرون والمعادية للإسلام والمسلمين في ظل تنامي ظاهرة مشاريع القوانين العنصرية وصعود اليمين المتطرف وتعاظم حضور خطاب الكراهية واستشراء نظرية الاسلاموفوبيه والتي يتشارك في نشرها وتعميمها والدعوة إليها مجموعة من وسائل الإعلام الفرنسية الحاقدة والمحسوبة على اليمين واليمين المتطرف والتي تجد الرعاية والدعم والتأييد من قبل اعلي المستويات السياسية الفرنسية
من هذه البيئة المحتقنة والمليئة بالتناقضات والصراعات والتي تبحث عن مكاسب ضيقة واسترضاء مرحلي لبعض التيارات الحزبية العنصرية وبتشجيع بالغ من الخطاب الرسمي للدولة ممثل بالرئاسة والحكومة برز إلى السطح مشروع قانون الأمن الشامل الذي تقدّمت به كتلة الحزب الحاكم " الجمهورية إلى الأمام " إلى البرلمان الفرنسي والذي يعطي دليل وانطباع على تراجع مستوى حرية التعبير والرأي وعدم قبول الأخر ومحاولة فرض النفوذ وتحقيق السيطرة والاستحواذ واثبات الذات
ان اخطر ما في مشروع قانون الأمن الشامل المطروح الفقرة "24 " منه التي تقيد حرية التصوير والنشر وفرض عقوبة السجن عام وغرامة مالية قدرها " 45" ألف يورو على كل من ينشر صور" وجه أو أي علامة تعريفية " لأي رجل شرطة أو درك أثناء أداء وظيفته من أجل إلحاق الأذى الجسدي أو النفسي به وهي حالة انقلاب خطيرة على ضمانات ممارسة الحريات التي كفلها الدستور الفرنسي على مر السنين الطويلة ولهذا تفجرت الاحتجاجات الواسعة أكثر عدداً وتنظيما وتحدي في يوم 21 / 11 / 2020 الماضي في العاصمة الفرنسية باريس حيث تجمع آلاف المتظاهرين في ساحة حقوق الإنسان " والتروكاديرو " في مقدمتهم أعضاء النقابات العامة للصحفيين وقادة منظمات المجتمع المدني ورؤساء هيئات حقوق الإنسان وجموع غفيرة من المواطنين وقد رُفعت في المظاهرات شعارات تسخر من ماكرون وسياسته وأخرى أكثر جريئة تندد بالقانون على غرار " قانون أمن شامل يساوي دكتاتورية شاملة " و" لا للدولة البوليسية " و" الديمقراطية في خطر " و" نعم لدولة القانون " وقد رفع متظاهر لافتة كتب عليها " في بلاد العميان العور هم من يشرعون القانون" و " حرب الصورة على الشعب " وما تبع ذلك من اعتقالات ومداهمات كبيرة طالت العديد من النشطاء والمشاركين فضلاً عن المواجهات العنيفة بين المحتجين وقوات الأمن حيث تبادلوا قذف " القنابل المدمعة " وغيرها
القوات الأمنية الفرنسية منذ سنوات متهمة بممارسات سلبية خطيرة وجائرة إضافة إلى التجاوزات القانونية الموثقة والعنف المفرط والمبالغ فيه ضد المتظاهرين بالضرب ألقاس والسحل والركل واستعمال العصي المكهربة والرصاص المطاطي وأحيانا الحي فضلا عن إلقاء القنابل الدخانية الضارة بالصحة والحياة بين حشود المحتجين وقد تم تداول عدة مقاطع مصورة عبر مواقع التواصل الاجتماعي لاعتداءات الشرطة على مواطنين فرنسيين كان أبرزها ذلك الاعتداء على شاب من أصل أفريقي يدعى " ميشيل زكلير " في العاصمة باريس ووفق المشاهد المتداولة فإن الشاب الذي يعمل منتجاً موسيقياً كان قد لمح سيارة الشرطة لدى خروجه من منزله مساء السبت 28 تشرين الثاني الماضي متجهاً إلى الاستوديو الخاص به في المنطقة 17 بباريس ولخشيته من الحصول على مخالفة لعدم ارتدائه الكمامة فقد اندفع داخل المبنى الذي يقع به مكتبه إلا أن الشرطة لحقت به إلى الداخل حيث تظهر اللقطات تعرضه للضرب المبرح من عناصرها لمدة عشرين دقيقة متواصلة وقد وصف القضاء الفرنسي الذي ينظر بالقضية بأنه "ضرب متعمد وذو دوافع عنصرية " وبناء عليه قضي بالحبس الاحتياطي بحق ثلاثة من عناصر الشرطة الأربعة الذين قاموا بالاعتداء على الشاب
الكثير من الفرنسيين يؤكدون أن القانون بهذا الشكل المنحرف والمنحاز جاء لإخفاء الوجه القبيح للقوات الأمنية ولتغطية سلوكها وجرائمها بحق المواطنين وقد اعتبروه مهين لقيم الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان التي قامت عليها الجمهورية والثورة منذ بدايتها وانه هندس وصمم عمليا لتحطيم الحريات ومنع حقي " الإعلام والمعرفة " وهما الحقان المنصوص عليهما في الدستور الفرنسي وفي جميع المواثيق العالمية والمعاهدات الدولية التي وقعتها وصادقت عليها فرنسا
وقد تساءل العديد من الصحفيين والمهتمين فيما بينهم " هل ما يجري هي حرب الصورة " وقد خلصوا جميعا الى نتيجة واضحة واحدة أنها فعلا معركة الدولة الفرنسية مع الصورة لأن هذا القانون يشجع الشرطة على إخفاء التجاوزات الخطيرة والمشينة التي تقوم بها وهذا ما أكده الأمين العام للاتحاد الدولي للصحفيين " أنطوني بيلانجر " حين قال ان بث الصورة وخاصة البث المباشر ستكون مستحيلة في ظل القانون المقترح لأنه بمجرد التصوير سيؤدي إلى الاعتقال والاستهداف من قبل الشرطة ولا أحد من الصحفيين يريد أن يعتقل أو يلاحق قضائياً ولا أحد منهم أيضا على استعداد لتحمل ضغط واستفزاز الشرطة أثناء أداء مهمته
من المهم في هذا الشأن إن نبين بأنه ليس الصحفيون ومراسلو الوكالات وصناع الأفلام الوثائقية هم المستهدفين بهذا القانون فقط، بل أيضاً أي شخص يستخدم هاتفه المحمول لالتقاط الصور على وجه الخصوص أثناء المظاهرات أو أي حركات شعبية أو اجتماعية في المقابل سيتمكن أفراد قوات الأمن من تصوير السكان خلال حياتهم اليومية وما يمثله ذلك من انتهاك خطير للحقوق الأساسية وحق حرية التعبير وبالضرورة حرية الصحافة كذلك
ونتيجة لقوة وزخم وحدة الاحتجاجات التي شهدتها عدة مدن فرنسية ضد مشروع القانون المثير للجدل سارعت الحكومة إلى اتخاذ خطوة للوراء بعد اجتماع الرئيس الفرنسي ماكرون مع رئيس الحكومة جان كاستيكس ووزراء أساسيين بالحكومة ورؤساء كتل نيابية لمناقشة مشروع القانون حيث أعلنت الأغلبية البرلمانية أنها ستعيد صياغة المادة 24 في مسودة القانون بشكل كامل لكن زعيم النواب الشيوعيين فابيان روسيل وبعض المعارضين لمشروع القانون يرون أن ذلك ليس كافياً وانه يجب سحب المادة كلياً من نصوص القانون لأنها تهدف بالأساس إلى النيل من حريات الصحافة والإعلام والتعبير وهي الحريات العامة الأساسية في نظام الجمهورية الفرنسية
وهنا لابد من الحديث عن حالة التخبط والتناقض التي يعيشها الرئيس ماكرون مع صعوبة فهم مواقفه وهو بيدي دعمه الكامل لهذا المشروع المرفوض شعبيا ومهنيا وقضائيا وفي الوقت نفسه يدافع عن نشر الصور المسيئة للنبي محمد صل الله عليه وسلم معتبراً إياها نوعاً من حرية التعبير والجميع يعلم ان حرصه منصب على جذب الناخبين ومغازلة اليمين المتطرف في ظل تراجع الدور الفرنسي في عهده على اكثر من صعيد سواء في مستوى الاقتصاد او الدور العالمي النشيط للدبلوماسية الفرنسية
هذا القانون " الأمن الشامل " يعتبر هجمة شرسة لبسط النفوذ والسيطرة على الإعلام وتركيع وترهيب الصحافة وهو أيضا نكسة كبيرة وغير مسبوقة للحريات العامة والأساسية في فرنسا ناهيك عن انه يشكل خطوة الى الوراء في حياة المسيرة الديمقراطية ويسهل السيطرة بقبضة من حديد على الناشطين والمعارضين وقد جاء في الأساس لتعزيز الشعور بالإفلات من العقاب لدى رجال الشرطة وجعل " عنف الشرطة غير مرئي " بعد استحالة البث المباشر وتشريع الاعتقال ودخول مستقبل المهنة الصحفية في دائرة الاستهداف ومرحلة الخطر
والسؤال المطروح في واقع فرنسا المأزوم أين هي من ثورتها التي اندلعت شرارتها التحريرية عام 1789 حين رفعت شعارات الحرية والمساواة والإخاء وأين الرئيس ماكرون وقبله ساركوزي اليوم من منظّري عصر النهضة والأنوار فلاسفة فرنسا ومفكريها العظام من جان جاك روسو وديدرو ومونتسكيو إلى فولتير
من ناحية أخرى فقد امتدت الانتقادات الى خارج فرنسا عبر انتقاد أممي حيث اعلن مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة عن قلقه بشأن مشروع القانون وقال إنه يجعل فرنسا في وضع متناقض مع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والميثاق الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية
وأخيرا لقد اظهر هذا القانون بكل بساطة فرنسا الفرانكوفونية والليبرالية إمام العالم الديمقراطي والحر وكأنها أصبحت جزءاً من الأنظمة السياسية الدكتاتورية المتخلفة في العالم الثالث التي تعارض وتمنع حرية الرأي والتعبير والتصوير وتقهر وتقمع وترهب شعوبها بسطوة رجال الأمن وتعسف عناصر الشرطة وبطش أفراد الدرك
mahdimubarak@gmail.com