النسخة الكاملة

“حقوق الإنسان”.. نفاق الخطاب..!

الخميس-2020-12-10 10:06 am
جفرا نيوز -
جفرا نيوز- كتب علاء ابو زينة 

يتصور الذي يسمع عن «حقوق الإنسان» أن هناك جنساً آخر أعلى من البشر يتحكم بهم ويضطهدهم ويحدد مصائرهم ، مثلما يقال مثلاً عن استيلاء البشر على «حقوق الحيوان». لكنّ الذي يعتدي على حقوق الإنسان ويجعل تحصيلها للمعظم نضالاً شاقاً، هو «إنسان»، من حيث التعريف البيولوجي وعلم الأجناس. وتنطوي كل فكرة «حقوق الإنسان» على مفارقة مذهلة أيضاً، حيث الذين يرفعون هذا الشعار ويروجون له، من مالكي المنابر وسلطة الخطاب، هم الأكثر اعتداءً على هذه الحقوق بلا مراء.

بطريقة ما، تميزت الخبرة البشرية في خطوطها العريضة بالصراع والتنافس أكثر من التعاون. بدأ ذلك عندما سيج أول إنسان عاقل – أو غير عاقل- قطعة من الأرض وحشر فيها حيواناته التي جمعها، واستخدم هراوته وعضلاته للدفاع عن ممتلكاته أمام الآخرين. وبدل أن يصطاد يوماً بيوم ويترك حصة للآخرين، أحبّ أن يجمع له وحده قطعاناً تكفي قبيلة، صادرها من الطبيعة واستغل الندرة الناجمة ليقايض حيواناته بقمح حيث سيج أرضاً وزرعها. ومنذ ذلك الحين لم تعرف البشرية خيراً أبداً.

عندما تعقدت الأفكار، وحدث التمييز بين الاحتياجات البسيطة والعليا، دخلت مفردات القيم في اللغة: الكرامة، الحرية، التنوير، العدالة، وما شابه. وانطوت هذه المفاهيم نفسها على تطوير استغلال الإنسان للإنسان. من القتال بالهراوات والحجارة دفاعاً عن الحيز والمُلكية، نشأت الغزوات والحروب التي هدفها نهب حصة الآخر وحصتها وتأمين البقاء الشخصي، أو عند الأضعف الدفاع عن الحصة الشخصية والبقاء أمام الآخر. وكان وراء ذلك قلق وجودي بنيوي على المصير، واعتقاد بأن امتلاك أكبر قدر من الموارد سيؤمن هذا المصير.

وفي مرحلة ما، تدخلت مهارة التأويل التي ميّزت العقل البشري الماكر لتسمي الغزو والاستعمار «تنويراً»، على سبيل المثال. وافترض هؤلاء البشر المتفوقون في المكر وتوظيف الأدوات أن كرامتهم وحريتهم ورفاههم –وكل متعلقات الوجود- تتحقق بالوسيلة الوحيدة المتاحة، وهي ملء مخازنهم بالثروات بمبرر انتشال الفقراء من الهمجية وتعريفهم بـ»حقوقهم».

وما يزال هذا المسعى الذي أصبح مؤسسياً وثرياً بالمزيد من الأساليب والأدوات هو نفسه: الاستيلاء على حصة الآخر، بكسر إرادته وإسكاته وتجريده من أي أدوات للمقاومة. وما يمارسه أكثر المدافعين تحمُّساً عن العدالة وكرامة الإنسان وحقوقه غير القابلة للتصرف، هو عمل كل شيء لضمان تيئيس المطالبين بها وتقطيع ألسنتهم وأطرافهم. سوف يكون تطوير الآخر بإخلاص ومساعدته على إطعام نفسه انتحاراً عندما لا يعود في حاجة إلى سلعك وسلاحك، ولا يخاف من سلطانك ويستنطق سطوتك. وحتى في ذلك القسم الضعيف المستلَب من البشرية، ثمة صراع أفقي حيث الأقوى بين الأضعف يستأسد على جاره الفقير مثله ويسرقه.

في الحقيقة، كلما بدا أن البشرية تطورت من حيث البناء المادي أو المعرفة والفكر، تطورت آلياً أدوات تجريد عدد أكبر من أبناء الجنس البشري من إمكانية التمتع بأي حقوق. وقد تعزز الفعل العدواني البدائي، بأدواته ودوافعه البسيطة، ليصبح متطوراً مؤدلجاً وقاتلاً، مسنوداً بخطاب يدّعى الحقيقة، حيث يُلبس الباطل ثوب الحق ولا يُسمح بالاعتراض. ويُسوّد تعريف القوي للمفاهيم ويُطبّع حتى يصبح إيماناً.

بمراجعة تاريخ البشرية المعروف والمطموس، لم تكن البشرية في أي يوم في سلام مع نفسها. وفي كل عصر كان «النضال من أجل حقوق الإنسان» حاضراً كجزء أساسي من متعلقات العالَم. ولم تتحقق في أي مرحلة يمكن رصدها عدالة عاش معها كل البشر شبعانين ريّانين ومستدفئين. ودائماً سيكون هناك المهمّشون والمستضعفون والمصادرون الذي تكون خبرتهم في الحياة كفاحاً مستمراً معذّباً ضد أبناء جنسهم المتسلحين بأدوات العدوان وبلاغة اللسان.

للأسف، سوف يتطلب تمتع الإنسان –كل إنسان على الكوكب- بالحقوق بمعانيها الخيرية غير المؤولة والمشوهة، أن تتغير طبيعة الإنسان -بتدخل إلهي أو بتسلط جنس أعلى يجعل الكل سواسية. وسوف يبقى الاحتفال بحقوق الإنسان، الذي ترعاه وتكتب أدبياته القوى الأكثر بطشاً بالإنسان، واحداً من متعلقات التجميل غير المحترِف للتغطية على التشويه الأساسي في الخبرة البشرية –التي ربما تكون مطبوعة موضوعياً بصراع البقاء. وسوف يتعايش الكثر المستلبون معه كجزء من التدليس المنافق، الطاغي والمؤسسي، الذي يستهدفهم في جملة أدوات عقلنة الاستيلاء.