قراءة في كتاب جعفر حسان الاقتصاد السياسي
الخميس-2020-08-13
جفرا نيوز -
جفرا نيوز - المهندس عادل بصبوص
سَعِدتُ واستمتعت وربما كثيرون غيري بقراءة كتاب "الإقتصاد السياسي الأردني: بناء في رحم الأزمات" للوزير الأسبق دكتور جعفر حسان الذي نشر منذ أيام، والأسباب لذلك كثيرة ومتعددة، فنشر الكتاب بحد ذاته مفاجأة وخطوة غير مألوفة من المسؤولين السابقين في هذا البلد، فجلهم يلتزم الصمت بعد أن يترك المنصب أو يتركه المنصب، فليس لديه الكثير ليقوله، أو هو يحجم عن القول – إن كان لديه ما يقوله - حتى لا يؤثر ذلك على إمكانية عودته للمنصب ذاته أو لمنصب آخر مستقبلاً، فنشر كتاب في هذا الموضوع الشائك بالذات ومن قبل من كان حتى عهد قريب نائباً لرئيس الوزراء وقبل ذلك مديراً لمكتب الملك ووزيراً سابقاً للتخطيط والتعاون الدولي، يمثل سابقةً بل سنة حميدة نرجو أن يتَّبِعَها الكثيرون من المسؤولين وخاصة من تقلبوا في المناصب سنين طوال، واكتسبوا خبرة ومراساً وتعلموا دروساً مهمة يجب أن لا تبقى محصورة ضمن أذهانهم فقط، تدفن معهم في القبور أو تتبدد تدريجياً بمرور الوقت وتلاشي الذاكرة.
استعرض الكتاب تطور اقتصاد الوطن ضمن سياقه السياسي منذ نشوء الدولة وحتى أيامنا هذه، وتعرض لكافة المنعطفات والأزمات التي تعاقبت على البلد أزمة إثر أخرى، والإنعكاسات والآثار الإقتصادية وغير الإقتصادية التي خلفتها والتي وصلت في غير مرة إلى تهديد وجوده واستمراره كياناً مستقلاً وهوية، ركَّز الكتاب على الجوانب الإقتصادية بيد أنه وثق أيضاً الكثير من التطورات السياسية والإجتماعية، بشكل قدم للقارىء قصة الأردن ككيان ووطن صمد واستمر وسط أعاصير متلاحقة وأمواج متلاطمة لم تهدأ منذ استقلاله قبل قرن من الزمان، تناول الكتاب بالأرقام والإحصائيات الموثقة وبالتحليل أيضاً، نمو الإقتصاد الوطني منذ أن كانت موازنة البلاد لا تتجاوز عشرات أو مئات الآلاف من الجنيهات الإسترلينية وكان عدد السكان لا يزيد كثيراً عن مائتي ألف نسمة إلى أيامنا هذه، مقدماً بذلك وثيقة متكاملة ومرجعاً مهماً للباحثين والدارسين.
يؤكد الكتاب أن مشكلة الأردن الإقتصادية تتمثل في فشل كافة المحاولات التي هدفت إلى بناء اقتصاد منتج مستدام، نتيجة "الإتكال" على المساعدات الخارجية بشكل جوهري ومستمر في بناء الدولة وتشغيل مرافقها المختلفة وتوفير الخدمات لمواطنيها، وقد تكرر في الكتاب وبشكل غير مسبوق في أدبيات التنمية والتخطيط الأردنية استعمال مصطلح "الإتكال" و "الإتكالية" و "الإقتصاد الإتكالي" لوصف سمة الإقتصاد الأردني الذي اعتمد من قيامه وحتى الآن وبدرجات متفاوتة على الدعم الخارجي، وخلص المؤلف إلى نتيجة مفادها أن الحل الوحيد الذي يُخرِج الأردن من أزماته الإقتصادية يتمثل بالتخلص من "الإتكالية" ببناء اقتصاد وطني مستدام يستند إلى الإنتاجية والاعتماد على الذات.
استعرض المؤلف بشكل تفصيلي الأزمات التي عصفت بالبلد والإقتصاد والتي نتجت في معظمها عن الحروب والصراعات التي ضربت المنطقة، والتي أعاقت المحاولات المتكررة لبناء اقتصاد وطني مستقل، ولكنه تجنب وبدبلوماسية لافتة تحميل حكومات بعينها ولو جزئياً مسؤولية فشل تلك المحاولات حتى في المجالات التي تقع ضمن سيطرتها الكاملة، كما تعرض بإسهاب أحياناً وإيجاز أحياناً أخرى لغالبية الخطط والإستراتيجيات والمبادرات الرئيسية التي أطلقتها الحكومات المتعاقبة، وخاصة تلك التي أثار تنفيذها وما يزال جدلاً واسعاً على مختلف المستويات وأعني هنا برنامج التخاصية وبرنامج التحول الإقتصادي والإجتماعي، والتي ما زال الكثيرون ومن مستويات اقتصادية واجتماعية وسياسية متنوعة ينظرون إليهما سلبياً على أنهما بيع وتفريط بمقدرات البلد، ويلاحظ أن المؤلف قد تجنب قدر الإمكان وضع رأيه وتقييمه الشخصي لكل منهما، واكتفى بالإشارة إلى دراسات تقييمية لهذين البرنامجين قامت بهما جهات محلية وخارجية.
يؤكد المؤلف أن المشكلة ليست في التغيير المستمر الذي تشهده الحكومات، وإنما في الآلية التي تعمل بها الحكومات والوزارات، وليسمح لنا معاليه بالتساؤل في هذا المقام عن الأسباب التي حالت وتحول دون وضع الخطط والإستراتيجيات التنموية موضع التنفيذ الفعلي، والتي سرعان ما تضييع في غياهب النسيان، ما هو المصير الذي انتهت إليه خطة تحفيز النمو الاقتصادي الأردني للأعوام 2018-2020 التي أشرف معاليه شخصياً على أعدادها، والتي لم يعد أحد يسمع بها بعد استقالة حكومة الملقي ولم يمضي سوى ثلاثة أشهر على المباشرة بتنفيذها، الواقع والحقيقة أن رؤساء الوزارات والوزراء لدينا لا يقبلون أن يكونوا منفذين لإستراتيجيات وخطط وضعها غيرهم، الجميع يريد أن يستأثر بالمجد أمام صاحب الشأن، وأنه قد جاء بما لم يأت به المتقدمون والمتأخرون، ولهذا السبب يتم تجاهل الخطط والاستراتيجيات الوطنية المقرة، وتقديم خطط وبرامج جديدة وتستمر الحلقة المفرغة بالدوران
يمثل الفصل الرابع من الكتاب "تحديات الحاضر وفرص المستقبل" الجزء الأهم من الكتاب والذي يعرض فيه المؤلف فهماً عميقاً للتحديات الرئيسية التي تواجه الوطن واقتصاده بالذات، والإطار العام الذي يجب أن يتم من خلاله التحرك السريع لمعالجة الأزمات والمشاكل المستعصية، ويحدد لذلك أربعة مجالات رئيسية هي خلق فرص التشغيل الحقيقية في قطاعات انتاجية مستدامة، وحل مشكلة الطاقة، ومعالجة قضايا الضرائب والنمو، وأخيراً ما أطلق عليه المؤلف مجال "الإرادة والإدارة والتنفيذ" والذي يهدف إلى إحداث تغيير جذري يؤدي إلى خلق جهاز حكومي تنفيذي كفؤ وفعال يحظى بثقة المواطنين، ويعمل وفق مبادىء الحوكمة الرشيدة، وأرى أن هذا هو مربط الفرس وبداية الحل لمشاكل الأردن القديمة منها والجديدة، وبغيره سوف تبقى المشاكل تراوح مكانها سنوات وسنوات دون حل.
أخيراً أقول نجح المؤلف في تقديم إضافة نوعية للآراء والإجتهادات الهادفة إلى التوصل إلى مقاربات آمنة لحل مشاكل الأردن المعقدة والمزمنة، قد نتفق معه في جوانب ونختلف في أخرى ولكن ذلك لن يقلل من أهمية المبادرة وقيمتها، خاصة وأنها تأتي من قبل متخصص ورجل دولة من طراز رفيع، مجتهد قارىء نهم متابع جيد، عرفته عن قرب وعملت بمعيته نحو ثلاث سنوات إبان توليه وزارة التخطيط والتعاون الدولي قبل أكثر من عشر سنوات.