النسخة الكاملة

هل يمكن إعادة الألق للصحافة الورقية؟

الخميس-2020-07-28
جفرا نيوز - جفرا نيوز - المهندس عادل بصبوص
بداية أود أن أسجل انحيازي المطلق للصحافة الورقية، فالعلاقة بيننا لم تنقطع منذ خمسة عقود، يوم كنت على مقاعد الدرس أواخر المرحلة الإعدادية، وكانت الصحيفة اليومية مصدراً أساسياً للتعلم والثقافة وتشكيل الوعي، مقابل عشرين فلساً تعادل نصف المصروف اليومي لتلميذ من أسرة متوسطة الحال، علاقة نمت مع الأيام حتى غدت إدماناً يصعب الفكاك منه، برغم التغير الكبير الذي طرأ على دور الصحف المحلية والذي تراجع كثيراً لصالح أدوات ووسائل بديلة أنتجتها الثورة الهائلة في مجال التكنولوجيا ووسائل إنتاج ونشر المعارف والعلوم.
لم تترك المواقع الإلكترونية ووسائل التواصل الإجتماعي، التي غزت حياتنا بل وسيطرت عليها خلال السنوات الأخيرة، الكثير للصحافة الورقية، فما يستجد من أخبار ووقائع محلية كانت أم عالمية يستقبله المتلقون بشكل فوري وطازج عبر هواتفهم أو أجهزة حواسيبهم، في حين تنشره صحف الصباح الورقية بعد ذلك بساعات، والأمر ذاته ينطبق تماماً على المقالات والتحليلات الصحفية ومواد الثقافة والفن والرياضة، فلم يعد الناس مهتمين بشراء هذه الصحف، ولم يعد التجار وأصحاب الأعمال معنيون بنشر اعلاناتهم فيها، 
فلماذا يدفعون للصحف لنشر إعلانات لن يراها إلا القليلون، خاصة وأن وسائل التواصل الإجتماعي والمواقع الإلكترونية قد وفرت البديل الأنجع والأكثر فعالية بكلفة أقل، حتى المساحات الواسعة التي كانت تخصصها الصحف لنشر النعي والتعازي تقلصت كثيراً، وقد سارعت الحكومة إزاء الجفاف التدريجي لمصادر تمويل هذه الصحف وهي شريك رئيسي فيها من خلال المؤسسة العامة للضمان الإجتماعي، إلى محاولة المساعدة وسد العجز من خلال زيادة كبيرة في اجور الإعلانات الحكومية، إلا أن ذلك لم يفلح في إقالة هذه الصحف من عثرتها، بيد أن الأمور لم تقف عند هذا الحد، فقد تلقت الصحف ضربة قاصمة أثر تفشي وباء كورونا، وتوقف العمل تماماً لأسابيع في هذه الصحف، مما تركها عاجزة عن صرف رواتب العاملين فيها، لا بل أن الصحيفة الوحيدة المملوكة للقطاع الخاص والتي كانت تتمتع بوضع نسبي أفضل، قد اضطرت للإعتذار لعدد من كبار الكتاب فيها عن عدم امكانية صرف أية مكافآت لهم نظير نشر مقالاتهم فيها
لقد دفع الوضع المأساوي للصحف المعنيين وأصحاب المصلحة للإستنفار وقرع الأبواب طالبين النجدة والعون للحيلولة دون الوصول إلى إفلاس هذه الصحف وإغلاقها، فهم يقولون إن هذه الصحف تشكل جزءاً من الهوية وتعكس ملامح وقسمات البلد، وهي حفظت وتحفظ الذاكرة والأرشيف الوطني، كما أنها منبر من منابر الثقافة وأداة مهمة في توجيه وصياغة الوعي الجمعي، إضافة إلى السبب الأهم والمحرك الرئيسي في هذا المجال، والذي يحرص قارعو الأبواب على عدم التركيز عليه، ألا وهو توفير فرص العمل للعشرات بل المئات من الصحفيين والمراسلين والكوادر الفنية وغير الفنية الداعمة لهم 
لقد وجدت صرخات واستغاثات الصحف والعاملين فيها آذاناً صاغية لدى الحكومة، وها هو رئيسها يصرح بالأمس أثناء اجتماعه بمجلس النقباء، بأن الحكومة تدرس حالياً العديد من السيناريوهات لإعادة الألق للصحافة الورقية، فما الذي تستطيع الحكومة تقديمه في هذه المرحلة، فالصحف الورقية بضاعة كسدت وفقدت سوقها ليس بفعل جائحة كورونا ولا بتأثير تراجع الأوضاع الإقتصادية في البلد، وانما بفعل ظهور بدائل أنسب وأقل كلفة لن تستطيع الصحف الورقية منافستها بأي حال، هذا حال الصحافة الورقية في العالم أجمع، هذه مرحلة بدأت شمسها بالأفول ولن تفلح أية إجراءات مالية أو غير مالية في وقف ذلك، صحف عالمية كبرى توقفت نسخها الورقية عن الصدور، وصحف أخرى على الطريق، هذا هو مصير الأدوات والتقنيات القديمة إذ تطردها وتغيبها تقنيات حديثة ومتطورة، كالهواتف الأرضية إذ تختفي تدريجياً لتفسح المجال للهواتف الخلوية، وكأشرطة الفيديو وأشرطة الكاسيت التي انقرضت أمام زحف الوسائل البديلة الأرخص والأكفاء بمئات المرات
لن ينقذ الصحافة الورقية محلياً غير الدعم المادي المباشر أو غير المباشر، وهو خيار يجب أن لا يوضع على الطاولة بتاتاً في هذه المرحلة التي تعاني فيها الخزينة والمالية العامة من ضائقة حادة غير مسبوقة، فهناك قطاعات أخرى تئن وتعاني وهي أولى بالدعم والرعاية، إضافة إلى أن أي تدخل حكومي لن يقدم حلاً أو معالجة نهائية للقضية، ونحن إذ نقول ذلك لا ندعو هذه الصحف للتسليم والإنتحار، وانما ندعوها لإعادة الهيكلة والمراجعة واجتراح حلول من خارج الصندوق، للتكيف مع المستجدات، للإحتفاظ بما تبقى لها من قراء وزبائن ولجلب آخرين جدد، ونؤكد أن الدعم الحكومي ليس هو الحل، بل ربما يكون في "الابتعاد الحكومي" عن هذه الصحف جزء من الحل، 
على القائمين على هذا الصحف أن يدركوا أن الزمن قد تغير وأن الصحف بهيكلياتها المؤسسية الحالية والاعداد الكبيرة من العاملين وبالمخرجات الحالية، لن تتجاوز محنتها لا بل سوف تزداد المشكلة صعوبة وتعقيداً. قد تستطيع الصحف وبمساعدة الحكومة ترحيل الأزمة أو تأجيلها لبعض الوقت، ألا أن قانون العرض والطلب سينتصر في النهاية وستلاقي مصيرها المحتوم لا محالة .....
© جميع الحقوق محفوظة لوكالة جفرا نيوز 2024
تصميم و تطوير