النسخة الكاملة

الكيلومترات الثلاثة

الإثنين-2020-01-06 01:11 pm
جفرا نيوز - جفرا نيوز - كتب د. محمد ابوعمارة مدير عام مدارس الرأي ومؤسس مدارس كنجستون 
كان (عمر أحمد) والذي صار يسمى منذ اليوم (عمر أفندي) سعيداً جداً عندما تم تعيينه في تلك المفرزة الأمنية وذلك بعد أن تخرج من الجامعة من الكلية العسكرية وبعدها تم توزيعه كم كان ينتظر تلك اللحظة التي سيطبق فيها ما تعلّمه من أساليب وفنون وعلوم عسكريةً، وفي صبيحة ذلك اليوم ركب (عمر أفندي) الحافلة التي ستوصله إلى مقر المفرزه والتي لم يكن قد زارها من قبل، بل ولم يكن يعرف أين تقع تلك المدينة أصلاً التي تقع فيها تلك المفرزة، سار بهم الباص بطيئاً عبر تلك الأراضي الخالية لفترة طويلة من الزمن و(عمر أفندي) يفكر طيلة الرحلة بأنه يجب عليه في المرات القادمة الإستيقاظ مبكراً أكثر للوصول دون تأخير، لأنه تعلّم الإنضباط من العسكرية ولكنها أول رحلة.
 لذلك فلا بُدّ أن القائد سيغفر لي إن تأخرت! نظرَ عُمر في وجوه من كانوا يركبون الباص بجانبه وكان معظمهم يغطُّ في سباتٍ عميق، ويكأنهم قد حفظوا الدرس، وبعد ساعتين ونصف إذ بالسائق ينادي عسكر شباب عسكر يلا!! فقلتُ له: "هل وصلنا". 
فقال لي أحد الجالسين بجانبي: "نعم، يبدو أنّك جديد هنا!" قلت: "نعم، إنه يومي الأول". فربَّتَ على كتفي وقال: "الله يعينك إمشي وراي". وبالفعل هذا ما كان ومشيت مع رفيقي وسألته: "هل أنت عسكري؟" 
-لا، أنا لست عسكرياً ولكني أعمل في الكافيتيريا فقط. -لكن لماذا لم ينزلنا الباص أمام المفرزة؟ -لأن المفرزة ليست على خط الباص -ولكن هل هي بعيدة من هنا؟ -نعم تقريباً ثلاثة كيلومترات .. -ثلاثة كيلومترات!! بعيدة جداً! أولا توجد أي وسيله مواصلات إلى هناك؟؟ -كلا، عليك أن تقف وتؤشر للمارة من السيارات علّ وعسى أن يشفق عليك أحدهم ويوصلك بطريقه...
كانت هذه صدمتي الأولى، وسرتُ بجانب هذا الشخص صامتاً لمدة زادت عن نصف الساعة ووصلنا أخيراً إلى المفرزة حيث كنت منهكاً من المشي وكذلك صديقي، دخلت إلى المفرزة وعّرفت على نفسي وكنت أقول في نفسي أن الجميل من الأيام هو القادم وبدأت أمارس حياتي الجديدة وكنت أشعر بالفخر كلما ناداني أحدهم (عمر أفندي) فأشعر بالغبطة، وكنت أستلذ أكثر عندما أكون مرتدياً للزي العسكري حينما يراجعني أحد المدنيين فأشعر بلذة المنصب وخاصة إن جاء ليتكفل أحد المطلوبين، أو حينما يتصل بي أحد كبار المسؤولين ليطلبَ مني شيئاً ما، ولكنني كنت حريصاً جداً على تنفيذ القانون ما استطعت.
وفي نهاية الأسبوع الأول من العمل جاء وقت المغادرة وتذكَّرتُ عندها الكيلومترات الثلاثة وسألتُ زملائي، أولا توجد سيارة لتنقلنا من هنا إلى أقرب موقف للمواصلات، فأجابوا: "بلا، يجب أن –تزّبط- علاقتك مع أحد السائقين ومعظمهم مدنيين وذلك لكي يرتب مغادرته مع مغادرتك". فقلت: "ولكن كيف؟!"
-غمزني أحدهم وقال: أنت وشطارتك... لم أفهم ما رمى إليه زميلي، ولكني أعددت حقيبتي وحملتها وهَمَمْتُ بالمغادرةِ إلّا أن أحد زملائي استوقفني وقال انتظر قليلاً سآخذك معي فسيأتي أحدهم لإصطحابي... حمدت الله كثيراً على ذلك وشكرته وبالفعل هذا ما كان، عدت إلى منزلي والكل متعطش لسماع أخبار أسبوع دوامي الأول، احتضنت والدتي وبدأت أسرد لهم مجريات الأسبوع الأول منذ ركبت الباص إلى حين عودتي، طبعاً لم يخلو الموضوع من كوني (البطل الوحيد في جميع الأحداث) مرّت الإجازة سريعةً لأجد نفسي أستقل نفس الباص متوجهاً نحو مكان العمل، لكن الطريق هذه المرة كان طويلاً وثقيلاً أكثر من المرة الأولى، أنزلني الباص وكنت وحيداً على مفترق الطرق وبدأت أسير وأنا أفكر هل أقف لأنتظر أحد المارّة ليقلني معه أم لا؟! أنا عمر أفندي هل سأركب مع أي شخص!! وبنفس الوقت يذهب تفكيري إلى راتبي الذي يذهب نصفه تماماً أجرة للمنزل الذي يأويني وأمي في ذلك الحي الشعبي، ونصفه الآخر آخذ منه فقط أجرة الطريق لأترك لوالدتي مصروف الشهر لها ولإخوي كم كنت أتمنى أن أشتري سيارة تقلني عبر هذا الطريق الموحش ولكن يبدو أنّ حلم السيارة طويل!! وبعيد!! كم كنت أتمنى أن أملك أجرة التاكسي الذي ينقلني من هذا التشعب لمكان عملي لأصل دون تعب أو تعرّق ولكن كل فلس محسوب حسابه حتى وجبات طعامي محسوبة بدقة، ولكن عندما أترفع سيزيد راتبي وعندها سأستطيع أن أحسن معيشتي وإخوني، وسنوات قلال وسوف يتخرج أخي سلامة ويساعدني في مصروف البيت، سار عمر بالطريق ببطء شديد ووصل لمكان عمله منهكاً جداً أكثر من المرة الماضية، بدأ أكثر شحوباً وتعباً وإحباطاً، وصراع مشتعل في داخله ما بالك يا عمر هل بضعة أمتار تغير تفكيرك اصبر واثبت فإن لك من الإحترام مالا يوجد لغيرك، ومرّ الأسبوع الثاني أكثر بطئاً وأكثر إزعاجاً، لا أدري ما هو الشعور الذي سيطر على وفي كل مرّه كنت أقول لنفسي عمر أفندي استيقظ!!
مارست عملي كالمعتاد، خفت درجة الجدّية عندي، بدوت أكثر تعاوناً كما وصفني زملائي، وأكثر تقصيراً من جهة نظري وبدأت الأسابيع تمر بطيئةً، تارة ينقلني زميلي معه وأخرى أركب مع سيارة نقل للمواشي وأخرى أنهي المشوار مشياً على الأقدام!!
وكنت في كل مرّة أقدّم طلب نقل من هذا المكان ولكن الإجابة تأتي دوماً بالرفض لأن النقل له شروط أنا لم أحققها وطبعاً جميع الشروط تتلاشى أمام الواسطة فمعظم زملائي كانوا في حركة انتقال إلا أنا ثابت كثبات المسافة (الثلاثة كيلومترات)!!
وفي إحدى المرات وأثناء مسيري للعمل التفت على صوت زامور نظرت إلى السيارة وإذ بها أحد المراجعين والذين لهم معاملات عندي...
-عمر افندي تفضل اركب معاي!! -كلا أرجوك، أنا أحبُّ أن أسير -يا رحل الدنيا شوب اركب -لو سمحت كمل طريقك!! -متل ما بدك...  وتركني وذهب ... ما أتعسني لماذا لم أركب معه، والله أني أنا بحب البهدله بس ما أنا إذا ركبت معه يمكن يطلب مني أمشيله معاملات غير قانونية لأنه أصلاً كله مش مزبوط!!
أكملت مشواري (الثلاث كيلومترات) وأنا أتصبب عرقاً وبالفعل وعند وصولي وجدت هذا الشخص ينتظرني لأن معاملته لا تكتمل إلا بتوقيعي، قرأتها وكانت غير قانونية ورفضت التوقيع، شعرت بلذةٍ لأنني لم أركب السيارة معه...
ومرّتْ الأيام وكان الأسبوع الأخير من الشهر وجيبي خالٍ من النقود نزلتُ من الباص لأبدأ برحلتي الطويلة والمتعبة وكنت أشعر بالتعب النفسي قبل أن أسير بدأت خطواتي بالتكاسل وسمعتُ صوتَ زامورٍ خلفي ..
-عمر أفندي يا رجل اركب بالله عليك والله ما بدي منك إشي بس الدنيا شوب والناس لبعض... وقفت وحدّقتُ بذلك السائق وكان أحدهم ممن يسيّرون المعاملات غير القانونية نظرت إلى سيارته الفارهة المكيفة وإلى ملابسه الأنيقة وأنتابني الصمت هل أركب معه أم لا!!
نظرت إمامي إلى الكيلومترات الثلاثة وأعدت النظر إليه... ولأول مرّه أتردد ولا آخذ القرار بسرعة، ولأول مرّة أفكر، هل أركب معه؛ أم أكمل طريقي مشياً على الأقدام!! ولكنني أيضاً أخذت قراراً بأن أكمل طريقي مشياً على الأقدام, وسرت بالطريق وشعرت بطوله وغربته ووحشته والسيارات تمر من جانبي مسرعة وأنا أقف تارةً وأسير تارةً أخرى...
لا أدري لماذا بدأت أشعر بأن حلمي تحطّم، وصرت أفكر في قادم الأيام فهل سأكمل مشوار حياتي بهذه الطريقة وأنا الذي طالما توقع الجميع لي ذلك المستقبل الباهر والمزهر!!
بدأتُ أشبه الآخرين، حديثي لا يخرج عن موضوع الراتب وكيف سأدير صرفه بحكمة حتى يكفي لنهاية الشهر، وصرت أفكر في القروض وأصبحت أشتاق كثيراً لوالدتي وبيتي وصارت الثلاث كيلومترات تزداد وحشه وطولاً وثقلاً... 
وفي أحد الأيّام وأثناء بداية رحلة الثلاث كيلومترات سمعت صوت زامورٍ لسيارةٍ خلفي، وقفتُ، ابتسمتُ، وتحرّكتُ!!

© جميع الحقوق محفوظة لوكالة جفرا نيوز 2024
تصميم و تطوير