المصور جورج تيّم: سبقنا "الفوتوشوب" قبل 60 عاماً
جفرا نيوز - بين ستينات القرن الماضي، والعصر الحالي، مرّ التصوير بتحوّلات كبيرة، ومتسارعة بتسارع تطور التقنيات الالكترونية، ويمثّل المصور جورج تَيّم (1954) نموذج المصوّر الذي اختبر مختلف التقنيات، وصولاً إلى الرقمي، وتعايش معها، وأجرى التغييرات الضرورية المتناسبة مع تطورات المهنة.
في أساس مهنته، ينتمي المصور "جورج" إلى جيل التصوير بالأسود والأبيض يوم كان للمصوّر الدور الأساس في تكوين الصورة.
البداية: عمل بسيط
بدأ جورج عمله في التصوير مبكّراً، عندما كان في التاسعة من عمره، لتمضية فصل الصيف يوم آثرت العائلات التقليدية البسيطة أن يقضي أبناؤها بعد انتهاء العام الدراسيّ في عمل بسيط صيفاً منعاً للتسيّب، وتحضيراً لهم لتعلّم مهنة قد تفيدهم مستقبلاً.
وجد جورج في التصوير متعته، خصوصاً أنه عمل مع واحد من أهمّ المصوّرين الطرابلسيين المَهَرة، وبما أنه كان يتابع دراسته في فترة الدوام المسائي، أتاح له فراغه النهاري بالانغماس في التصوير، مع كل مستتبعاته.
لم يمضِ وقت طويل حتى أُعجِب معلمه بفطنته، وحبّه للمهنة،لذلك، كان يوكل إليه إدارة المحل عند اضطراره لمغادرته، كما أفاد جورج "الميادين نت" مازحاً، و"منها لعب النرد مع زملائه على ساحة التل"، موصياً جورج بأن يدعوه عندما يحضر زبون.
لكن جورج كان يستغل غياب المعلّم، ويقوم بنفسه بتصوير الزبون، وتحميض الصورة، قبل عودة المعلم للمحل، وفرض نفسه مصوّراً ناجحاً، فزادت أجرته، "من فرنكات بدايةً، فإلى ليرة، ثم اثنتين..”
في أوائل السبعينات، انتشرت أصناف عديدة من الكاميرات الشعبية، وشهدت المرحلة انتعاشاً اقتصادياً، فشكّلت مناسبات الأعياد فرص عملٍ وفير للمصورين، يأتون للمحل بأفلامهم، فكان جورج يتولّى المهمة، و"كنا نعمل في تلك المناسبات حتى منتصف الليل دون انقطاع، وكنت أقوم بأكثر الحمل عن المعلّم، فرفع مدخولي، وصرت أقبض 40 ليرة في الأسبوع، وهي سند جيد للعائلة"، كما قال.
صدف غير مرتقبة
خلال العمل، تحدث مواقف غير مرتقبة، ويروي جورج منها أنه "خرج مع معلمه للتصوير لأول مرة في عرس، وكان في الرابعة عشرة، ويصدف أن تعطّل الفلاش، فراح المعلم باحثاً عن بديل من مكان آخر يستغرق ساعةً ذهاباً وإياباً”.
في هذه ألأثناء، كان العرس قد انطلق، وبلغ مرحلة التصوير الهام، ولم يكن المعلم قد عاد، فبادر جورج بالتصوير لأول مرة ملتقطاً المواقف الحسّاسة في الإكليل، وعندما عاد المعلم، تابع ما تبقى من تصوير. وعند تحميض الأفلام وتظهيرها، اكتشف موهبة جورج في استخدام الكاميرا، فصار يصطحبه في كل عرس.
انخرط جورج في التصوير، ولم يعد يريد متابعة الدراسة، وقال لأهله: "لن أعود للمدرسة، نجحت أم لم أنجح في "السرتيفيكا"، وسأتابع التصوير ما حييت".
في أحد الأعراس، أخطأ المعلم في تصوير موقف طلبه أصحاب العرس، فأنحى باللائمة على جورج، فترك العمل، ويصدف أن التقى بزميل، فطلب منه تصوير عمادة ابنه بنهاية الأسبوع.
يقول جورج: "كان علي تدبير كاميرا، وبما أنني كنت أساعد كثيرين في خدمات تصوير، اعتمدت على مصور آخر هو المعلم حنا ستافرو، فأعارني واحدة، وبنهاية العمادة، وتأمين الصور التي قمت بتحميضها، وتظهيرها في محترفه، قبضت 40 ليرة، وهي في مناسبة واحدة توازي عمل أسبوع كامل، فقررت أن أتابع بنفسي".
زاد الطلب على جورج، وعرف في المدينة، فكان عليه تأمين كاميرا، وعدة التصوير من فلاش، ومكبر الطباعة (أغرانديسور)، وبقية الحاجيات، فرافقه المعلم حنا إلى متجرِ أرمنيٍّ في بيروت، وكان جورج قد ادّخر 600 ليرة، دفعها كقسط أول من مبلغ 1800 ليرة هي ثمن كل العدّة.
انطلق جورج في عمله المستقل في مطبخ شقة رديفة لنسيب له، واشتهر في المدينة، وعمل في عدة استوديوهات على نفقته، ويتوقّف في حديثه كثيراً عند طبع الصور الصغيرة 7- 10 سنتم، وعند تقنيات التحميض والتظهير، وكيف كان بخبرته يستخدم مواد التحميض العتيقة لإخراج صور بألوان أقل سواداً، خصوصا عند الحاجة لتكبير الصورة، فكان يحدّق سوادها، ويتفنن في استخدام التحميض والتصوير، والأهم "الرتوش"، للوصول إلى صورة جميلة يحبّها الناس.
سبقنا "الفوتوشوب"!
يقول حول ذلك: "سبقنا "الفوتوشوب"، فكُنّا نُنَعِّم الوجوه، ونُحَسِّن المناظر، ونُلَوِّن الصور، ونُرَكِّب صورة من صورتين أو أكثر، مستخدمين "الرتوش" ل"النيغاتيف" بقلم الرصاص، ثم للصورة عينها بعد طبعها بضربات فنية أخرى”.
مع اندلاع الأحداث، وانقطاع التيار الكهربائي، ابتدع جورج عدة تقنيات للاستمرار حيث توقف الآخرون، ذاكراً إنه "اتّخذ من طبقة أولى "استوديو" بديلًا، وجعل بابه ساتراً تمكّن من خلفه التصوير بما يتسرب من نور شمس، واستخدم نور السيكارة للتحميض، ولمبة لفّها بورق أحمر، ونور بطارية درّاجة نارية للطبع، وصندوقة بداخلها كرتونة بيضاء تعكس النور بديلًا من اللمبة للرتوش.. "هكذا حاربت بطالة الأحداث” يقول.
"كان المُصَوِّر هو حامل الكاميرا، ولاقط المشهد، ومُحَمِّض الفيلم، وطابعه، وصانع "الرتوش" للصورة، ومُخْرِجها من ألفها إلى يائها، فكانت مهنة المتعة، والفن"، بحسب تعبيره.
مع ظهور الفيلم الملوّن في السبيعنات، كان الزبائن يطلبون عدة أفلام أسود- ابيض، وبعض صور ملوّنة، فالصورة العادية بألف ليرة، بينما الملونة بـ 2500 ليرة.
ظهور المُلَوَّن أربك جورج، وهو لا يملك إلا كاميرا واحدة. بحنكته، تدرب على استبدال الأفلام في الكاميرا الواحدة بين مشهد ومشهد. يصوّر بالأسود-أبيض، والفيلم لم يُسْتَكمل، فينزعه من الكاميرا حافظاً رقم الصورة، ويصوّر بالملون، ثم ينزع الفيلم بنفس الطريقة، معيداً الفيلم الأسبق إلى حيث توقف فيه قبلا بحسب رقم الصورة، وهكذا حتى تنتهي المناسبة.
يقول جورج: "لم أخطىء بهذه الطريقة ولا مرّة واحدة، وكان الفيلم يخرج 36 صورة تامة، إن أبيض-أسود، أم ملون.. لكن كان لا بدّ بالنهاية من اقتناء كاميرتين، واحدة لكل صنف".
انتشر الملوّن، فلم يعد من دور للمصور إلا الكاميرا، وبدأ عصر التحميض، والتظهير، والرتوش بالانحسار حتى انتهى تسعينات القرن الماضي، فمختبرات طبع الملون قضت على فن الحرفة، وفي نفس الوقت، أدت إلى انتشار المصوّرين، ولم تعد حنكة الكاميرا، وعياراتها، ومقاييسها والتحايل على انعكاس النور ذي أهمية، فركّز جورج عمله على الملوّن، مع استمرار ضئيل للأسود-أبيض حتى الانتفاء أواخر التسعينات.
وعندما حضر الرقميّ، ظل للتصوير مكانة معينة، لكن، بنظر جورج، "مع بروز الهواتف المزوّدة بالكاميرا، تتراجع مهنة التصوير، باطّراد، نحو المجهول".