فلسفة الأرقام.. هكذا أحدثت الأرقامُ العربية ثورةً في حياة البشر!
جفرا نيوز - هناك الكثير من الأشياء التي نتعامل معها بصورة يومية، وربما بحكم عتيادنا عليها نعتبرها موجودة هكذا منذ البداية، لم يطرأ عليها أى تغيير، أو قد لا نعرف على وجه الدقة كيف تكونت في بداية الأمر. والأرقام – على إطلاقها – يمكننا اعتبارها واحدة من هذه الأمور الاعتيادية التي لا تثير التساؤل عن ماهيتها ولا كيفية عملها.
فجميعنا في مرحلة ما من الحياة قد تعلم الحساب والعد حتى الرقم 10، إنما يبقى السؤال الأساسي حول كيف بدأت الأرقام في الظهور على المسرح الإنساني؟ وكيف تطورت لتأخذ شكلها الحالي؟ هذه الأسئلة وغيرها هي ما سنحاول الإجابه عنه خلال تقريرنا.
قد نظن أننا الكائنات الوحيدة القادرة على العد وإدراك الكميات، إلا أن هناك دراسات علمية أثبتت أن بعض أنواع الحيوانات لديها القدرة على إدراك الكميات أيضًا، مثل قدرة اللبؤات على إدراك أن مجموعة الأسود الغريبة التي تهاجم القطيع كبيرة أو صغيرة العدد، بمجرد سماعهم لأصوات الزئير، في تجربة مثيرة للاهتمام قام بها فريق بحثي تقوده كارين ماكومب من جامعة ساسكس البريطانية.
كما أن هناك بعض أنواع الحيوانات الأخرى التي تستطيع الأم فيها – بشكل مؤكد – إدراك اختفاء واحد من صغارها ضمن مجموعة الصغار المألوفة لديها، مثلما أوضح عالم الأنثروبولوجيا والفيلسوف الفرنسي ليفى بروهال في كتابه التفكير البدائي أو «كيف يفكر البدائيون؟»، تختلف هذه القدرة بالطبع عن القدرة على العد بشكل صحيح ودقيق، إذ إنها عملية لإدراك الفرق في الحجم بين مجموعتين صغيرتين من النوع نفسه، وهو ما أسماه العلماء بـ«الحس العددي».
في تجربة أجريت على أحد الغربان لإثبات قدرة الغراب – الذي يعد من الطيور الذكية – على إدراك الكميات الملموسة. حاول القائمون على التجربة الإمساك بأحد الغربان الذين أقاموا عشًا بالحديقة مرارًا وتكرارًا، لكن دون جدوى؛ ففي كل مرة كان يقترب فيها أحدهم من العش، كان الغراب يغادر مسرعًا، ويراقب العش أثناء وقوفه على شجرة بعيدة حتى ينصرف.
وحين حاولوا خداع الغراب بإدخال رجلين في برج المراقبة المواجه للعش، ثم خرج أحدهما، وبقى الآخر بالداخل، لم تنطل هذه الخدعة على الغراب الذي ظل يراقب الوضع من بعيد حتى خروج الرجل الثاني. استمر الأمر هكذا مع إعادة التجربة حتى صار العدد خمسة رجال، ليخرج أربعة منهم، ويبقى الخامس بالداخل متربصًا، وهنا فقد الغراب قدرته على العد وذهب إلى عشه ظنًا منه أن المكان قد أصبح آمنًا.
مما يثبت أنه على الرغم من إدراك بعض الحيوانات أحيانًا للكميات والاختلافات بينها، إلا أنها لا تتصور أبدًا كميات مطلقة؛ لأنها تفتقر إلى القدرة على التجريد – وهى خاصية بشرية – ومن هنا قد نستنتج أن القدرة على العد هي بالفعل قدرة بشرية حصرية ترتبط ارتباطًا وثيقًا بتطور الذكاء، كما أنها تتضمن عمليات عقلية أكثر تعقيدًا من مجرد امتلاك «الحس العددي» الموجود لدى بعض أنواع الحيوانات.
الإنسان وتاريخ الأرقام
ربما يكون الإنسان قد عرف الأرقام قبل معرفة الكتابة؛ ذلك لأن التجارة والمعاملات المادية المباشرة – وهي أولى الممارسات الإنسانية – لا تستلزم بالضرورة لغة معقدة، بل يمكن الاستبدال بها – في هذه المعاملات – أشياء من قبيل عد أصابع اليد، أو القدم، للدلالة على الكمية أو السعر، كما يوضح الفيلسوف والباحث في تاريخ العلوم ديفيد سايكل باك من جامعة نورثويسترن الأمريكية.
فى بحث علمي نشرته جامعة كامبريدج بمجلة « أنتيوكتي» المهتمة بالدراسات الأثرية في يناير (كانون الثاني) 2015، يوضح ستيفين كريسوميلز – الأستاذ بجامعة واين الأمريكية – الأسبقية التاريخية للمصريين القدماء في اختراع أول نظام ترقيم مشفر بعد المقارنة بين الأرقام المصرية الموجودة في الوثائق المكتوبة بالخط الديموطيقي، ونظيرتها الأرقام اليونانية المخترعة حوالي القرن السادس قبل الميلاد.
ولأن الشيء بالشيء يذكر، فإن السومريين القدماء قد اخترعوا بدورهم ما يعرف بالنظام الستيني – الوحدة الأساسية فيه هي رقم 60، وليس رقم 10 كما في النظام العشري مثلًا – وهو النظام الذي ما زال مستخدمًا حتى اليوم في قياس الوقت والزوايا والإحداثيات الجغرافية.
ظلت الأرقام الرومانية – (باعتبار الرومان امتدادًا ثقافيًا لليونان)، وهي نظام يستخدم مجموعات من الحروف الأبجدية الرومانية – سائدة في أوروبا حتى انتشار نظام الترقيم الهندي والعربي أواخر القرن الرابع عشر، ولم يزل نظام الترقيم الهندي/العربي النظام الأكثر شيوعًا لتمثيل الأرقام في العالم اليوم.
كان مفتاح فعالية النظام هو رمز الصفر، الذي نعرف أقدم وجود له لدى السومريين حسبما أوضح روبرت كابلان في كتابه « التاريخ الطبيعي للصفر» وقد طوره علماء الرياضيات الهنود القدماء، حوالي عام 500 ميلاديًا ليقوم علماء الرياضيات العرب باستكمال المهمة بعد ذلك.
هل تكره القسمة المطولة؟ إذًا جرّبها بالأرقام الرومانية
جميعنا في مرحلة ما درس القسمة بشكل عام و القسمة المطولة بشكل خاص، وحتى نستطيع أن نعرف حجم الإنجاز العربي المستخدم في عملية القسمة تلك، علينا تخيل القيام بعملية قسمة مطولة باستخدام الأرقام الرومانية، التي هي في جوهرها عبارة عن سبعة رموز رياضية تستخدم للتعبير عن الأرقام ومن ثم يعاد تكرارها مرة أخرى بعد تخطى الرقم سبعة.
بمعنى أنك إذا أردت القول 775 سيكون عليك كتابة 700 وحدها، ثم 70 وحدها ( عبارة عن 10 + سبعة) ثم خمسة. وهي عملية قد تستغرق ساعات طويلة من كتابة الأرقام الرومانية للخروج بحل عملية حسابية بسيطة، فتخيل أن تُستعمل أرقام طويلة و بدائية – بعض الشيء – كهذه في عمليات التجارة والبيع والشراء التي تحتاج بدورها للسرعة والدقة والإنجاز!
وانطلاقًا من هذه النقطة تحديدًا يمكننا إدراك أهمية الإنجاز الرياضي العربي في تقديم الأرقام العربية التي هي في جوهرها عبارة عن رقم يدل شكله على قيمته العددية، فلو نظرت لرقم ثلاثة (3) بالإنجليزية (وهو الأصل العربي للرقم) ستجده عبارة عن ثلاثة خطوط ليعبر عن قيمة الرقم نفسه، وكذلك الأمر مع الأرقام أربعة وخمسة وستة إلى آخره.
كان هذا الإنجاز العربي انجازًا ثوريًا بمقاييس ذلك العصر، فقد استطاع علماء الرياضيات والتجار الأوروبيون التخلص من النظام الروماني البطيء وصعب الاستخدام في العمليات الحسابية الكبيرة والمعقدة، بعدما فتح العرب آفاقًا جديدة لعلم الرياضيات والإمكانات التي يمكن تطويرها منه بتحويلهم الأرقام إلى لغة عالمية يسهل إدراك قيمتها العددية بمجرد النظر إلى شكلها دون الحاجة إلى معرفة اللغة اللاتينية، كالنظام الروماني.
وقد نقل كل من الخوارزمي والكندي – وهما من كبار علماء الرياضيات – نظام الأرقام العربية المطورة عن نظيرتها الهندية إلى أوروبا في القرن الثاني عشر الميلادي.