هكذا جنب ضابطان العالم حربين نوويتين مدمرتين

جفرا نيوز- في عام 1983، اقتربت البشرية مرتين من كارثة نووية كانت ستؤدي لنهاية العالم، وفي كلتا الحالتين، تم تجنب الكارثة بعد أن كانت على شفا الوقوع بفضل رباطة جأش ضابطين متواضعين رفضا تطبيق الإجراءات العسكرية، أولهما سوفياتي والآخر أميركي، فما قصتهما؟

تروي مجلة لوبس (L’Obs) الفرنسية القصتين بكل تفاصيلهما، الأولى تحدث عن صاحبها الروسي ستانيسلاف بيتروف بعد 15 عاما من وقوعها، والثانية نقلها الأميركي ليونارد بيروتس، الذي لم يتحدث قط عن إنجازه، ولكنه كتب تقريرا رفعت عنه السرية بعد معركة قانونية طويلة خاضتها منظمة "أرشيف الأمن القومي" غير الحكومية.


توتر شديد

ففي تقريره للمجلة يقول الكاتب فينسان جوفير إنه لم يكن من قبيل المصادفة أن الأزمتين الذريتين السريتين وقعتا عام 1983، عندما كان التوتر أيام الحرب الباردة على أشده، وكانت القوتان العظميان في مواجهة على عدة جبهات، في أفغانستان، حيث يشن الجيش السوفياتي حربا ضد المجاهدين المسلحين من قبل وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، وفي بولندا، حيث يدعم الكرملين الجنرال جاروزلسكي ضد "نقابة تضامن" التي يساعدها العديد من أجهزة المخابرات الغربية، وذلك في وقت نشرت فيه كل من واشنطن وموسكو صواريخ نووية متوسطة المدى في أوروبا.

ولم ينته الأمر عند هذا الحد في أوائل الثمانينيات -كما يقول الكاتب- حيث رأى الرئيس الأميركي رونالد ريغان أنه من الممكن توجيه ضربة قاتلة لما سمّاه "إمبراطورية الشر"، من خلال زرع الذعر بين كبار السن المرضى والمراهقين من قادة الاتحاد السوفياتي.

في مارس/آذار 1983، وضع ريغان خطته الضبابية "حرب النجوم" التي كان من المفترض أن تعطل الصواريخ النووية السوفياتية، ثم أرسل 40 سفينة أميركية إلى المحيط الهادي لمحاكاة حرب شاملة مع الاتحاد السوفياتي، وكتب في مذكرة صادرة عن وكالة الأمن القومي أن "هذه الأعمال تهدف إلى إثارة جنون العظمة وقد نجحت".

في ذلك الوقت، كان الرئيس السوفياتي يوري أندروبوف يعتقد أن أميركا تستعد لأن تكون صاحبة الضربة النووية الأولى، ولتجنب المباغتة، أطلق العملية السرية العملاقة "ريان"، التي كلف بموجبها 300 جاسوس سوفياتي يعملون في الغرب، بمراقبة الاستعدادات المحتملة لهجمات ذرية.

في هذا الجو القلق -كما يقول الكاتب- حدثت الأزمة الأولى، ودخل البطل الأول إلى المشهد ذات ليلة من أواخر سبتمبر/أيلول 1983، فقد كان المقدم ستانيسلاف بيتروف هو الضابط المناوب في مخبأ "سربيخوف-15" لقيادة الأقمار الصناعية بالقرب من موسكو، وهو المسؤول عن رصد الهجمات الصاروخية العابرة للقارات التي لا تقع عادة.

ولكن في تلك الليلة، أومضت جميع الشاشات بعد منتصف الليل بقليل، وانطلقت صفارة الإنذار المنبه، بعد أن رصدت الأقمار الصناعية صاروخا نوويا أميركيا يقال إنه يتجه نحو الاتحاد السوفياتي ثم رصدت اثنين فثلاثة فخمسة، وحسب أجهزة الحاسوب (الكمبيوتر)، فإن هذه الهجمات ستصيب أهدافها بعد 20 دقيقة.


إنذار خاطئ

وكان يجب على الضابط بيتروف -وهو يعرف ذلك- أن ينبه رؤساءه على الفور لكي يتوفر للكرملين الوقت لشن هجوم مضاد ضخم، ولكنه بقي متجمدا "في حالة صدمة" كما قال لاحقا، ومرت الدقائق ثقيلة والحاسوب يعلن عن الصواريخ، ورفاق بيتروف يحثونه على الاتصال برؤسائه، ولكنه ماطل، لأن حدسه أخبره أن قرار بدء حرب عالمية ثالثة، لن يبدأ به الأميركيون بـ5 صواريخ بل بالمئات، فقرر عدم إبلاغ قادته.

بعد 20 دقيقة طويلة جدا، تنفس الضابط السوفياتي الصعداء أخيرا بعد أن عرف أن الإنذار كان بالفعل كاذبا، وقد عرف بعد أيام أن سببه كان انعكاس ضوء الشمس على الغيوم المرتفعة، غير أنه لا أحد في الغرب علم بهذا الخطأ الذي كان من الممكن أن يتسبب في أكبر كارثة في التاريخ.

وأشار الكاتب إلى أن ريغان لو علم بهذه الحادثة، ربما لم يكن قد سمح لحلف الناتو بإطلاق تدريبات آبل آرتشر العملاقة التي نقل فيها 19 ألف جندي من الولايات المتحدة إلى أوروبا، وتم فيها تحميل القنابل الذرية الوهمية في مخازن حوالي 20 قاذفة من طراز "بي-52" (B-52).

ومع أنه تم إطلاع الاتحاد السوفياتي مسبقا على التمرين كالعادة، فإن موسكو كانت تخشى من أن ضخامة القوة المستعملة فيه يمكن أن تكون مقدمة لهجوم حقيقي واسع النطاق، ولذا بدلا من الرد بمناورات أطلقوا ضجة نووية حقيقية، وللمرة الأولى والوحيدة في الحرب الباردة، تم تركيب شحنات ذرية على الطائرات العسكرية السوفياتية المتمركزة في جمهورية ألمانيا الديمقراطية (الشرقية) وبولندا.

في هذه الظروف، جاء دور البطل الثاني، المقدم ليونارد بيروتس وهو ضابط استخبارات من سلاح الجو الأميركي في قاعدة رامشتاين الألمانية، مكلف بمراقبة أي تحركات للقوات الجوية السوفياتية، وقد اكتشف بفضل مصادره الفنية والبشرية الاستعدادات النووية للخصم، وكان عليه -كما يعلم- أن يخبر رؤساءه الذين يجب عليهم، وفقا للإجراءات، تكييف وضعهم مع موقف السوفيات، وبالتالي تحميل طائراتهم المقاتلة بقنابل ذرية حقيقية.


حذر في محله

ولكن غريزة بيروتس دعته إلى الحذر، ورجح أن يكون السوفيات قد يسيؤون فهم هذا التصعيد ويظنون خطأ أنه بداية شن هجوم أميركي، ولذلك نصح قائد القوات الجوية الأميركية في أوروبا الجنرال بيلي مينتر بالتهدئة وعدم الرد والانتظار، وبدا أن فهمه كان صحيحا، لأن الجنرالات السوفيات توقفوا عند ذلك الحد.

يقول مؤرخ أرشيف الأمن القومي نيت جونز "لو كان بيروتس قد نصح بالرد على السوفيات والاستمرار في التصعيد، لكان من المحتمل أن تكون الحرب قد وقعت"، ومع ذلك، لم يعرف بيروتس خطورة الموقف إلا بعد بضعة أسابيع، عندما تم فك تشفير الاتصالات السوفياتية أخيرا، فظهر ما هو مخيف، وفقا للوثائق التي رفعت عنها السرية، حيث أمر قائد الجيش السوفياتي الرابع جميع وحداته بالاستعداد "للاستخدام الفوري للأسلحة النووية"، وفي تقريره، الذي تم الكشف عنه، أشار بيروتس إلى أن القاذفات المقاتلة كانت في حالة تأهب "لمدة 30 دقيقة"، وقد تم تكريم ليونارد بيروتس بسبب هذا الوعي وإظهار البرودة غير العادية.

كان لهذه الأزمات النووية تأثير إيجابي للغاية -كما يقول الكاتب- فقد سلطت الضوء على مخاطر إطلاق كارثة نووية تودي بالعالم بسبب سوء فهم بسيط، وكتب رونالد ريغان بعد أيام قليلة من نهاية مواجهة آبل آرتشر، "لدي انطباع بأن السوفيات حذرون للغاية، ومصابون بجنون العظمة، وعلينا أن نقول لهم إنه لا أحد هنا لديه أدنى نية لمهاجمتهم من دون الاستسلام لهم".

وبعد بضعة أشهر من هذه الحادثة، اقترح ريغان على الرئيس الجديد للكرملين ميخائيل غرباتشوف تخفيض ترساناتهم النووية بشكل كبير، مما تمخض بعد 4 سنوات عن معاهدة القوات النووية متوسطة المدى والقضاء على جميع الصواريخ متوسطة المدى في أوروبا، وهي خطوة كبيرة نحو نهاية الحرب الباردة.