وصفي .. ومن مثل وصفي!..
جفرا نيوز - كتب: محمود كريشان
لا زالَ داليةً فينا نَفيءُ إلى
ظِلالِها بنَدى الأُردن نَسْقيها
وَصْفي!.. ويكفي بأنّا حينَ نذَكُرُه
نَزْدادُ فخراً ونَزْهو باسْمِهِ: تيها
فقد أَضاءَ الدَّمُ الغالي.. الدَّروبَ لِمَنْ
ضَلَّوا الدَّروبَ وغابوا في دَياجيها!!
وَلَسْتُ أبْكيهِ؟! بل أَبكي لغاليةِ
كانَ الشّهيدُ لها أَغْلى مواضيها!
تصادف الجمعة الذكرى الثالثة والأربعون لاستشهاد وصفي التل الذي غادرنا يانعا قبل الأوان، مؤديا ضريبة الشرف والموقف التي دفعها بدمه الأرجوان، عندما نالت منه الرصاصات الموسادية الغادرة في القاهرة يوم 28 تشرين الثاني 1971، ليعانق عطر الشهادة وقد أزهر دمه الأرجوان شيحا ودحنونا فوق الأرض الطيبة، في حين خيَّم الحزن على الوطن على امتداد الوجع والجغرافيا..
أما اذاعة عمان التي أسسها «وصفي» على تقوى الأردن،فقد كانت تبث رائعة فيروز الغنائية «موطن المجد».. وقلنا لهم فيما بعد: لماذا هذه الاغنية تحديدا؟.. فقالوا: إن الشهيد التل كان يعشق هذه الرائعة الغنائية الوطنية.. لأن الأردن في عرفه «موطن المجد»..
منذ تلك اللحظة.. أطلق الناس على مواليدهم اسم «وصفي» تأسيا بفارس الشهادة وعميدها، ومزهريات الورد في البيوت تحيط بصورته في برواز القلب، وهو يثني شماغه على كتفه، دون ألوان.. بـ»الأبيض والأسود»، ونظرته تشي بفروسية الموقف ورجولة فارس ربما لن يتكرر..
نستعيد ذاكرة الطفولة المجبولة بالحزن الكظيم ، في «حي المعانية»، ذلك المكان العماني الوادع ، الذي ينتشر أهله صبرا ووجعا ، على جانبي الطريق المؤدي، الى مطار ماركا القديم، لنتذكر لوعة الفراق في تلك الظهيرة الجنائزية الكئيبة، في نهاية شهر تشرين الثاني العام 1971، وقد التاعت القلوب التي ادماها الفراق، بمشهد الموكب المهيب، لجثمان الشهيد وصفي التل، محاطا بالزنود والجنود، الذين امتطوا سيارات الروفر العسكرية الحمراء المكشوفة، وقد تلثموا بشمغهم الحمراء ايضا، لاخفاء دموعهم على عزيز رحل، فيما ارتفع صراخ ونواح «المعانيات» لحظة مرور الموكب المسيج برايات الأردن وصريخهن يعلو: يا بيض حدا على وصفي.. قصن شعور الثنا كله!..
ظهيرة قاتمة.. طقسها حائر، سماء ملبدة بغيوم داكنة.. لكن بلا مطر.. رايات سوداء ارتفعت بؤسا وحدادا، فوق اسطح المنازل، اجهزة التلفزيون «الابيض والاسود» مطفأة في البيوت، لم تفتح الا على نشرة اخبار الساعة الثامنة مساء..المغفور له بإذن الله تعالى الملك الحسين، الأمير الشريف زيد بن شاكر، المشير الركن حابس المجالي، مريود وسعيد التل، «محمد رسول» كيلاني وآخرون..جميعهم «طاقين اللثمة» على ارض المطار، يمسحون دموعهم بأطراف كوفياتهم الحمر.. و«طق اللثمة» بمفهوم الأردنيين، يأتي لإخفاء الدموع..لأن بكاء الرجال «عيب» ..لكن ما العمل إذا كان الفقيد بحجم «وصفي».. ومن مثل "وصفي"!!.. ومن دفاتر شاعر الدولة والوطن "حيدر محمود"نردد بحسرة:
قدْ عادَ من موتِهِ وصفي ليسألـَـني: هل ما يزالُ على عـَهْدي بهِ وَطــَني
ولمْ يَقلْ - إذ رأى دمعي يُغالبُني: ألا كفى! و أعيدوني الى كفني!
فباطنُ الأرض للأحرار أكرمُ منْ كل الذي فوقَ ظهر الأرض من عَفـَن
ماذا أقولُ لوصفي؟ والدماءُ على كلتا يديّ تـُعرّيني، وتفضَحُني؟