هل ندم الملك؟!
جفرا نيوز - عبدالرحمن الدويري
أكادُ أجزم بذلك، فمَا مِن عاقلٍ يرى هذا العار الذي فاحَ به كيس النّزاهة الرّسمي يُمْكِنه أن يحس بغير الإحساس.
ديمقراطيتنا الموعودة أصبحت فضيحة «بجلاجل» كما يقولون، تتناقلها الأمواج عبر الأثير للدنيا، لكن مِن الصّعب عليه -طبعا- كملك أن يُظهر مشاعر الإحباط، ولا أقولُ الأسف تُجاه ما جرى تحت القبة، التي بَشّر بها الأردنيين والعالم المتمدّن شهورا عدة.
منطقيا وميكانيكيا يصعب تفكيك المحرك المعطّل الذي عُطبت قطعه الأساسية، ثم يَعزّ على مالك المركبة أن يُلقيها بعيدا، ويثقُل عليه كُلفة التجديد، فيؤثر الاحتفاظ بها، ويطلب من الفنّي عنده إعادة تركيبها، بعد مسحها، ثم يتوقع منها أداء مختلفا، يختفي عيوبها التي تُصدّع الرأس، وتقلق المنام.
هذا هو ما حصل لِمَكنة مركبة الدولة، وخطورة المرحلة، ومقتضى الأمانة لم يعودا يحتملان الحوم حول المشكلة، والإشارة إليها من بعيد، بل يقتضيان منا قدرا كبيرا من الصدق والجرأة، وما يكافِئُهما عند النظام من الشجاعة والاحتمال، لتخطّي الأزمة، ولملة خيوطها المبعثرة.
منذ البداية وقع الملك -بحكم ظروف توليه- أسير َالضِّباع التي عاشت زمنا طويلا في سدة الحكم، وشكّلت معا دائرة مغلقة حول غرفة التحكم في مسار الدولة، وأخذت بمفاتيح الإدارة، ووجدت فرصتها لتوسيع دائرة سيطرتها، لتستوعب الأحباب والخلاّن، وتنفيذ الأجندات الشخصية التي كانت مكبوحة نوعا ما، بحكم الحِنكة والخبرة، والقدرة على الموازنة في العهد السابق.
المحتكرون مفاصل الحركة في الدولة، وضعوا الملك الجديد في دوامة القلق، وأغرقوه في ظلمة الشك بكل مكونات المجتمع الحيّة؛ لأنهم يخشون من إمكانية كسره طوق سيطرتهم في العهد الجديد، وبالتالي تضييق مجال الحركة عليهم، فأفسدوا علاقة الملك بها مُبكرا جدا، وأحاطوه بهالة موهومة من الولاء الكاذب، والحماية والاحتضان، مما ضمن لهم انطلاق أيديهم في مقدّرات الشعب، فاستفادت كل المنظومة!! لكن على حساب تفكيك مؤسسة الوطن، لتصبح ملكا خاصا، أفقد الوطن أمنه السياسي والاقتصادي والمجتمعي.
كان على الملك منذ بداية الفعل الإصلاحي، أن يدرك أن الشعب بات على اطلاع مباشر بما جرى، ووعي كامل بحقيقة ما يجري؛ لانكشاف الأمر، وظهور آثاره وانتشارها، وصعوبة السيطرة عليها، وأن المنطقة تمرّ بمرحلة تحولات عميقة وضرورية؛ لتصفية مَكَامِن العِلل، وأنّه لا يمكن استثناء الأردن منها، والخطوة الحكيمة كانت تقتضي منه أن يستغني عن تلك الجهة التي ورطت سياساته، وأن يتخلى عن أدواته القديمة، ويُقدِّم للناس وُجوها نظيفة تُقنع الناس، وتَنال ثِقتَهم ودعمهم؛ لترميم عشر سنوات من الإدراة الفاشلة.
لكن يبدو أن سطوة الفئة الفاسدة ما تزال قوية، وأنها محل ثقته وسبب اطمئنانه إلى اللحظة، وعليها يراهن، ولا يخلوا الأمر من خيوط خارجية، تُقرّر حدود التغيير المقبول به إقليميا ودوليا، وإن كان هذا على حساب الشعب وحقوقه، وإن كان في الأمر أيضا قدرٌ من المجازفة، ما دام الشعبُ إلى اللحظة، وبشكل غير متوقع، يتحلّى بالصبر الجميل؛ خوفا من معادلة التغيير، لا نزولا عن الحقوق المهضومة.
على الملك أن يدرك أن ثقته في غير محلها، وأن رصيده ينفد بسرعة لتشبثه بأصحابها، وأن محاولة إيهام الناس أن الخطر قادم من جهة المطالبين بالإصلاح، لا من جهة المسؤولين عن الفساد، لن تجدي نفعا.
إن استمرار محاولة السيطرة على الشعوب، وتشويه وعيها، وتعمية الأمر عليها، لا ينجح في كل مراحل الحكم؛ لأنه أسلوب سينكشف في النهاية على رأي حكيم الهند وأديبها إقبال: فالذين يدافعون النظام بهذا الأسلوب يمارسون في الحُكم خصائص الثعالب، وهي ليست من مقومات الحكم الرشيد، حين تجعل مِن خِيار الأمة ومخلصيها، وهم برسالتهم ودورهم (ككليم الله موسى)، لعنة على قومهم، في حين تُتاجر بالفاسدين وتقدمهم، تصديقا لقوله تعالى: {فَإِذَا جَاءتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُواْ لَنَا هَـذِهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ} لكن أخطاء أئمة الفاسد كفيلة بإبطال السحر، وثورة المسحور على نهج الفرعنة:{أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللّهُ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} (الأعراف: 131)
بشرعِ الأسودِ إمامُ العبيدِ
يَرى دائما حِكمةَ الثُّعلبانِ
كليمُ الله يُرى لعنةً
على قومه في خُطوبِ الزمانِ
والشعب الأردني قالها صراحة: هو يريده إماما للأحرار، لا إماما لقطيع، يرفض الوعي الأردني الاستمرار فيه.
الملك معني بمواجهة المشكلة بنفسه مباشرة وبمسؤولية كاملة، وأن لا يفوّض بها أحد من الفاسدين، وعليه أن يعلم يقينا أن كلفة استغنائه عن غدد الفساد المعشعشة حوله، أقل كثيرا من كلفة استمرار سياسة الحصار والإقصاء والاغتيال، لكفاءات الوطن ورجاله الأطهار، الذين هم جواد الرهان الرابح لا محالة في زمن تصويب الأوضاع العربية.