إدارة تصريف مياه الفيضانات في المناطق الحضرية بصورة مستدامة
الاستاذ الدكتور رضوان الوشاح
تشهد المناطق الحضرية في الأردن والعديد من دول العالم تزايدًا ملحوظًا في حدة وتكرار الفيضانات الناتجة عن الأمطار الغزيرة، وهو ما بات يُشكّل تحديًا حقيقيًا للتنمية الحضرية المستدامة. ويعود ذلك إلى مجموعة من العوامل المتداخلة، في مقدمتها التغير المناخي، والنمو الحضري المتسارع، وازدياد الأسطح غير النفّاذة، إضافة إلى ضعف أو تقادم أنظمة تصريف مياه الأمطار في كثير من المدن.
ورغم ما تسببه الفيضانات من أضرار للبنية التحتية والممتلكات العامة والخاصة، فإن النظرة الحديثة لإدارتها لم تعد تقتصر على الاستجابة الطارئة، بل تطورت لتتعامل معها كمورد مائي وتنموي يمكن الاستفادة منه إذا ما أُدير بصورة علمية ومستدامة، ضمن إطار الإدارة المتكاملة للموارد المائية.
خصوصية الفيضانات الحضرية
تختلف الفيضانات الحضرية عن الفيضانات الطبيعية في الأودية المفتوحة، إذ إن المدن بطبيعتها تُقلل من قدرة الأرض على امتصاص مياه الأمطار. فالشوارع المعبّدة، والأسطح الخرسانية، والمناطق العمرانية الكثيفة، تحوّل الجزء الأكبر من الهطول المطري إلى جريان سطحي سريع، يتجمع في الشوارع والأنفاق والمناطق المنخفضة.
وفي مدن أردنية مثل عمّان، والزرقاء، وإربد، والسلط، ظهرت هذه المشكلة بوضوح خلال السنوات الأخيرة، حيث تجاوزت بعض العواصف المطرية قدرة شبكات التصريف المصممة وفق معايير قديمة، ما أدى إلى فيضانات موضعية وخسائر اقتصادية متكررة.
منطق الإدارة المستدامة
تعتمد الإدارة المستدامة لتصريف مياه الفيضانات الحضرية على مبدأ أساسي مفاده أن الحلول الهندسية التقليدية وحدها لم تعد كافية. فالأنفاق والقنوات والمصارف، رغم أهميتها، يجب أن تكون جزءًا من منظومة أشمل، تدمج بين التخطيط الحضري، والحلول الطبيعية، والتشريعات، والمشاركة المجتمعية.
ويبدأ ذلك بإعداد مخطط شمولي لتصريف مياه الأمطار على مستوى المدينة، قائم على دراسات هيدرولوجية وهيدروليكية دقيقة، تأخذ بعين الاعتبار التوسع العمراني المستقبلي وسيناريوهات التغير المناخي، ويتم تنفيذه من خلال خطط مرحلية واضحة.
الحلول القائمة على الطبيعة
أثبتت التجارب العالمية أن الحلول القائمة على الطبيعة (Nature-Based Solutions) تُعد من أكثر الأدوات فاعلية واستدامة في إدارة مياه الفيضانات الحضرية. وتشمل هذه الحلول الحدائق المطرية، والأرصفة النفّاذة، والأسطح الخضراء، وأحواض الاحتجاز المؤقت، والمناطق الرطبة الاصطناعية.
وفي السياق الأردني، يمكن لهذه الحلول أن تُحدث فرقًا كبيرًا، خاصة في الأحياء الجديدة والمشاريع التطويرية الكبرى، حيث تساهم في تقليل ذروة الجريان السطحي، وتحسين جودة المياه، وتعزيز الغطاء الأخضر، وتلطيف المناخ الحضري، فضلًا عن دورها الجمالي والاجتماعي.
تكامل الحلول الهندسية
لا يعني التوجه نحو الحلول الطبيعية الاستغناء عن الحلول الهندسية، بل إعادة توظيفها ضمن فلسفة جديدة تُركّز على تقليل سرعة الجريان وتأخير وصول المياه إلى المصبات النهائية، وتعظيم فرص التخزين والحصاد المائي.
وتشمل هذه الحلول القنوات المفتوحة والمغلقة، والأنفاق المطرية، والسدود الحضرية الصغيرة، وأحواض الاحتجاز، على أن تُصمم جميعها وفق معايير حديثة تراعي مستويات الخطورة المختلفة.
الدراسات الهيدرولوجية للمشاريع التطويرية
من أهم ركائز الإدارة المستدامة إلزام جميع المشاريع التطويرية، سواء في القطاع العام أو الخاص، بإجراء دراسات هيدرولوجية وافية تُقيّم أثر المشروع على شبكات تصريف مياه الأمطار القائمة.
ولا يجوز أن تتحمل البلديات وحدها تبعات زيادة مخاطر الفيضانات الناتجة عن مشاريع جديدة، بل يجب أن يتحمل المطوّر مسؤولية تنفيذ الحلول اللازمة داخل المشروع أو في محيطه، وفق مبدأ "المسؤولية عن الأثر”.
الحاجة إلى كودات وطنية واضحة
تعاني العديد من الدول، ومنها الأردن، من غياب كود وطني شامل لتصريف مياه الأمطار، أو من اعتماد أدلة قديمة لا تعكس الواقع المناخي الحالي. ومن هنا تبرز الحاجة الملحّة إلى تطوير كودات وأدلة وطنية للدراسات الهيدرولوجية والتصاميم الهندسية الخاصة بمنشآت تصريف مياه الأمطار، تعتمد على بيانات موثوقة ومعايير تصميم واضحة.
كما يجب أن تتكامل هذه الكودات مع كودات الطرق والجسور والتخطيط الحضري، لضمان انسجام عناصر البنية التحتية وعدم تعارضها مع مسارات الجريان الطبيعي.
الفيضانات كفرصة تنموية
إن التعامل الذكي مع مياه الفيضانات يفتح آفاقًا تنموية واسعة، إذ يمكن حصاد جزء من هذه المياه لاستخدامها في الري الحضري، أو تغذية المياه الجوفية، أو دعم المساحات الخضراء داخل المدن، وهو أمر بالغ الأهمية في بلد يعاني من شح مائي مزمن مثل الأردن.
نحو مدن أكثر مرونة
في الختام، فإن إدارة تصريف مياه الفيضانات في المناطق الحضرية بصورة مستدامة لم تعد خيارًا، بل ضرورة وطنية لبناء مدن أكثر أمانًا ومرونة. ويتطلب ذلك إرادة سياسية، وتخطيطًا علميًا، وتنسيقًا مؤسسيًا، وشراكة حقيقية مع المجتمع المحلي والقطاع الخاص.
فالفيضانات ليست خطرا يجب التخلص منه، بل ظاهرة طبيعية يمكن تحويلها إلى فرصة تنموية إذا ما أُحسن التخطيط لها وإدارتها بعقلية علمية واستباقية.
د. رضوان الوشاح استاذ هندسة المياه- الجامعة الاردنية وخبير في إدارة الموارد المائية ومخاطر الفيضانات