لسنا أسرى أفكارنا
يونس الكفرعيني
في أعماق كل إنسان تكمن حقيقة مذهلة، غالباً ما ننساها في خضم ضجيج الحياة اليومية، وهي أننا لسنا مجرد متفرجين على مسرح أفكارنا، بل نحن المخرجون والمؤلفون الذين يملكون القدرة على تغيير السيناريو في أي لحظة. يبدأ التحرر الحقيقي عندما ندرك أن تلك الأصوات الداخلية التي تهمس لنا بالعجز أو القلق ليست قدراً محتوماً، بل هي مجرد صدى لتجارب ماضية أو استنتاجات تسرعنا في تبنيها.
إن الإنسان، بتركيبته النفسية المعقدة، يميل أحياناً إلى بناء سجون غير مرئية من المعتقدات المقيدة، ويصدق بمرور الوقت أن جدران هذه السجون هي حدوده النهائية، لكن الحقيقة المنطقية تقول إن الفكرة التي ولدت في عقولنا لا تملك سلطة علينا إلا بقدر ما نمنحها نحن من شرعية واهتمام.
إن إعادة صياغة الأفكار ليست مجرد تفاؤل عابر أو هروب من الواقع، بل هي عملية عقلانية واعية تتطلب شجاعة لمواجهة المسلمات الشخصية. حين ننظر إلى أفكارنا كفرضيات قابلة للاختبار وليس كحقائق مطلقة، نفتح لأنفسنا باباً واسعاً نحو التجديد. فالعقل البشري يتمتع بمرونة عصبية مذهلة تتيح له إعادة تشكيل مساراته بناءً على ما نختاره من تركيز.
هذا يعني أن كل فكرة سلبية تراودنا هي في الواقع فرصة ذهبية لإعادة التقييم؛ فبدلاً من أن نكون أسرى لمنطق الخوف، يمكننا تفكيك هذا الخوف وسؤال أنفسنا عن مدى واقعيته، ومن ثم استبداله بمنطق البناء والخطوات العملية. إنها رحلة من "رد الفعل" إلى "الفعل" الواعي، حيث لا تعود الظروف الخارجية هي المحرك الأساسي لمشاعرنا، بل تصبح قراءتنا لهذه الظروف هي المفتاح.
لو تأملنا في طبيعة الوعي، لوجدنا أن الفكرة تشبه الغيمة التي تمر في سماء العقل؛ قد تكون قاتمة ومحملة بالمطر، لكنها في النهاية مجرد غيمة عابرة وليست هي السماء ذاتها. هذا الفصل الجوهري بين "الذات" وبين "الأفكار" هو جوهر القوة الإنسانية. عندما نتوقف عن قول "أنا فاشل" ونبدأ بقول "تراودني الآن فكرة تشعرني بالفشل"، فنحن نخلق مسافة أمان تسمح لنا بفحص هذه الفكرة بموضوعية.
في هذه المسافة، يولد المنطق وتنتعش الإيجابية العقلانية، فنكتشف أن ما كنا نراه جبلاً لا يمكن تسلقه ليس سوى مجموعة من التحديات الصغيرة التي يمكن التعامل معها. إن إعادة الصياغة هي فن رؤية الاحتمالات الكامنة خلف التحديات، وهي القدرة على تحويل العثرة إلى حجر أساس في بناء الخبرة الشخصية.
التحفيز الحقيقي لا يأتي من إنكار الألم أو الصعوبات، بل من الإيمان العميق بأننا نمتلك الأداة الأقوى لتغيير استجابتنا تجاهها. إن العقل الذي يمتلك القدرة على نسج سيناريوهات القلق هو نفسه العقل الذي يمتلك القدرة على ابتكار الحلول، والفرق الوحيد يكمن في توجيه هذه الطاقة. عندما نقرر بوعي أننا لن نكون ضحايا لطريقة تفكيرنا القديمة، نبدأ في ملاحظة أن الواقع يبدأ بالتغير تبعاً لتغير رؤيتنا له.
هذا ليس سحراً، بل هو منطق الحياة؛ فالشخص الذي يرى الفرص في كل زاوية سيتحرك بطريقة تجذبه نحو تلك الفرص، بينما الشخص الذي يرى العوائق سيظل ساكناً في مكانه. نحن نعيد صياغة ذواتنا من خلال إعادة صياغة اللغة التي نتحدث بها مع أنفسنا، ومن خلال استبدال كلمات الحتمية بكلمات الاحتمال والقدرة.
إن الاستمرارية في هذا النهج تبني داخلنا مرونة نفسية تجعلنا كالماء الذي يجد طريقه بين الصخور مهما كانت وعرة. فالحياة ليست سلسلة من النجاحات المستمرة، بل هي سلسلة من المحاولات والتعلم، والقدرة على إعادة صياغة "الفشل" كنوع من "البيانات والمعلومات" التي تخبرنا بما لا ينجح، هي قمة العقلانية. بهذه الطريقة، نتخلص من ثقل لوم الذات ونستبدله بشغف الاستكشاف.
نحن لسنا نتاجاً لما حدث لنا في الماضي، بل نحن نتاج لما نختاره أن نكون عليه في هذه اللحظة من خلال ما نقبله من أفكار وما نرفضه. إن الحرية ليست في غياب القيود الخارجية، بل في التحرر من قيود الإدراك الضيق، وفي اليقين بأن كل يوم هو مساحة بيضاء يمكننا فيها رسم ملامح جديدة لعالمنا الداخلي، وهو ما سينعكس بالضرورة على عالمنا الخارجي بأبهى الصور وأكثرها إشراقاً.
في نهاية المطاف، تصبح فكرة أننا لسنا أسرى لأفكارنا هي الحقيقة الوحيدة التي تمنحنا السيادة على حياتنا. إنها دعوة دائمة لليقظة، لكي لا ننجرف وراء تيارات التفكير السلبي التلقائي، بل لنقف بحزم ونختار الأفكار التي تبني، وتدفع، وتلهم. إن كل خلية في كياننا تتجاوب مع هذا التغيير الإيجابي، وحين نعتنق هذا المبدأ، نكتشف أننا نمتلك من القوة والإبداع ما يفوق خيالنا.
إنها رحلة ممتعة تبدأ بقرار صغير: أن ننظر إلى فكرة مقيدة اليوم، ونبتسم لها، ثم نعيد صياغتها لتكون جسراً يعبر بنا نحو آفاق أوسع من النجاح والسكينة النفسية، مؤمنين بأن العقل هو خادم مطيع لمن يعرف كيف يوجهه، وسجن مظلم لمن يسلمه زمام أمره دون وعي.