تقرير المحاسبة… حين تتحول الرقابة إلى عناوين مبتورة

محمد علي الزعبي 

نعم، لتقرير ديوان المحاسبة هيبته ومكانته ودوره الجوهري في حماية المال العام، لكن الهيبة لا تعني العصمة، والدور لا يكتمل إن تحوّل من أداة تصويب إلى سجل اتهام مفتوح، ومن وثيقة إصلاح إلى مادة للاجتزاء والتوظيف والشعبوية.

 إن القراءة المتأنية لتقرير ديوان المحاسبة السنوي تفرض سؤالًا مشروعًا: هل نريد رقابة تُصلح، أم عناوين تُدين؟ وهل الغاية هي حماية الدولة، أم جلد مؤسساتها أمام الرأي العام دون اكتمال الصورة؟

ما لا يُقال صراحة، وما يتم القفز عنه عمدًا أو إهمالًا، هو وجود لجنة وزارية عليا، برئاسة وزير الدولة لشؤون رئاسة الوزراء، تجتمع شهريًا، وتضع تقارير ديوان المحاسبة على طاولة القرار، بندًا بندًا، وتتعامل معها بلا ترف ولا مجاملة، أخطاء مقصودة تُحال، وأخرى غير مقصودة تُصحّح فورًا، وحالات جسيمة لم تُغطَّ ولم تُخفَ، بل أُحيلت بقرار واضح إلى هيئة النزاهة ومكافحة الفساد.

هذه ليست رواية دفاعية، بل حقيقة مؤسسية يعرفها كل من يعمل داخل الدولة، ومع ذلك، يغيب هذا الجهد عن التقرير، وكأن الدولة تُخطئ ولا تُصحّح، وكأن المؤسسات تُخالف ولا تُحاسَب، وكأن القرار غائب، فيما الحقيقة عكس ذلك تمامًا.

إن تجاهل ذكر عمليات التصويب لكل حالة ليس تفصيلًا تقنيًا، بل خللًا منهجيًا خطيرًا، فالخطأ الذي تم تصويبه لم يعد خطأ قائمًا، والمخالفة التي عولجت لم تعد قائمة بذاتها، وذكرها دون الإشارة إلى مصيرها تضليل غير مقصود، لكنه مؤذٍ، ويصنع انطباعًا عامًا بأن الدولة عاجزة أو متقاعسة، وهو انطباع غير صحيح ولا عادل.

والأخطر من ذلك، أن التقرير حين يُقرأ خارج سياقه الكامل، يتحول إلى مادة جاهزة للتجييش، والاستثمار السياسي، والتشكيك بكل ما هو مؤسسي، وكأننا أمام دولة بلا بوصلة، بينما الواقع يقول إن هناك منظومة متابعة، وقرارات، وإحالات، وتصويبًا يتم في الوقت المناسب ومن قبل تلك اللجنة الوزارية ، لا بعد فوات الأوان.

نحن لا ندافع عن الخطأ، ولا نطلب تلميعه، بل نطالب بعدالة التوصيف، فذكر التجاوز دون ذكر تصويبه هو نصف حقيقة، ونصف الحقيقة أخطر من البهتان ، كما أن الإقرار بأن التقرير نفسه قد يشوبه خطأ في التقييم أو في ترتيب الأولويات لا يُضعف ديوان المحاسبة، بل يعيد الاعتبار لدوره الحقيقي كجزء من منظومة الدولة، لا ككيان معزول عنها.

لسنا معصومين، لا كمراقبين ولا كمؤسسات، لكن الدولة التي تمتلك لجنة وزارية لهذه الغاية، تُراجع، وتُحاسب، وتُحيل إلى مكافحة الفساد دون تردد، هي دولة تحمي نفسها بنفسها، ومن هنا، فإن العودة إلى قرارات هذه اللجنة، ودمجها ضمن تقرير ديوان المحاسبة، ليس ترفًا تحريريًا، بل واجب وطني ومهني.

نريد تقريرًا يقول الحقيقة كاملة: هناك أخطاء، نعم، لكن هناك أيضًا تصويب، ومساءلة، وقرارات لا تُجامل، تقريرًا يُعزّز ثقة المواطن بالدولة، لا يُربكها، ويخدم الإصلاح، لا العناوين،، هكذا تُبنى الدول القوية… لا بتضخيم الخطأ، ولا بتغييب التصويب، بل بتكامل الرقابة مع القرار، وبوضوح الكلمة، وبشجاعة الاعتراف، ثم المضي قدمًا دون ضجيج.