ما بين الجامعات.. هل ستتكر التجربة الامريكية؟

البرفسور عبد الله سرور الزعبي 
مركز عبر المتوسط للدراسات الاستراتيجية
ليس التعليم العالي ملفًا خدميًا عاديًا، ولا منظومة لمنح الشهادات، ولا قطاعًا يمكن ترقيعه باللجان أو إنقاذه باستراتيجيات مؤجلة. التعليم العالي هو المرآة الأصدق لقدرة الدولة على التفكير بالمستقبل. حين تُدار الجامعة بوصفها عبئًا ماليًا أو ملفًا إداريًا ثقيلًا، تتحول إلى استنزاف صامت للموارد. وحين تُدار بوصفها مشروعًا وطنيًا لإنتاج المعرفة والمهارة، تصبح رافعة تنمية وسيادة. لكن حين تفشل الجامعة، لا يفشل معها قطاع التعليم فقط، بل يتعثر مشروع التنمية برمّته، ويتآكل رأس المال البشري، وتدخل الدولة في مسار إعادة إنتاج العجز.
من هنا، فإن المقارنة بين الجامعات الحكومية والخاصة في الأردن، على ضوء التجربة الأمريكية، ليست تمرينًا أكاديميًا محايدًا، بل مواجهة مباشرة مع سؤال محرج، لماذا ينجح نموذج، ويتعثر آخر؟ وهل المشكلة في المال، أم في العقل الذي يدير، والفلسفة التي تحكم؟
قوة الدول لا تُقاس بعدد جامعاتها، بل بقدرتها على تحويل الجامعة إلى محرك معرفي واقتصادي واجتماعي. ومن هذه الزاوية، يصبح الحديث عن التجربة الأمريكية والمقارنة بالجامعات الأردنية ضرورة، لكنه حديث مُحرج، ويكشف الفجوة بين الرؤية المعلنة ونمط الإدارة الفعلي بين النموذجين.
بدأت الجامعات الأمريكية الخاصة من رحم الدين في القرن السابع عشر، هارفارد، ييل، برينستون، وكولومبيا، وُلدت كمدارس دينية، هدفها نقل القيم والمعرفة الكلاسيكية للنخبة. لكنها لم تبقَ أسيرة له، فسرعان ما تحولت إلى مؤسسات علمية مستقلة بالكامل، قوامها التميز، واستقلال القرار، والسبب ان الدولة والمجتمع حسموا سؤالًا مبكرًا، الجامعة ليست أداة أيديولوجية، بل مصنع معرفة.
في أواخر القرن الثامن عشر، ظهرت الجامعات الحكومية الأمريكية ضمن رؤية وطنية واضحة، التعليم أداة مركزية للجميع لبناء الأمة والدولة الحديثة، ولم تُنشأ لإدارة البطالة المقنّعة أو امتصاص الغضب الاجتماعي.
حظيت الجامعات الحكومية بتمويل حكومي مباشر، مع الاخذ بعين الاعتبار تقديم الدعم غير المباشر للجامعات الخاصة. لكن الأهم أن هذا التمويل لم يكن ثمنًا للسيطرة، بل ضمانة للاستقلال الأكاديمي، واعتبر أي تدخل سياسي في القرار الأكاديمي خطاً أحمر، فالقرار محميًا بالقانون والثقافة السياسية. وبذلك، لم تُدار الجامعات بعقل الوصاية، ولا بعقل الخوف من الاستقلال، بل بعقل الثقة بالكفاءة.
النجاح الأمريكي، لا يكمن في حجم التمويل فقط، بل في طريقة توظيفه. الغالبية العظمى من الموارد تُضخ في البحث العلمي المرتبط بالصناعة والتكنولوجيا، وفي تدريب الطلبة على التفكير وحل المشكلات، لا على اجتياز الامتحانات.
لهذا لم تتحول الجامعات الأمريكية إلى مصانع شهادات، بل إلى مصانع شركات وابتكار. وكما لخّص جون ديوي هذه الفلسفة "التعليم ليس إعداداً للحياة، بل هو الحياة نفسها". ومن هنا لم يعد السؤال في سوق العمل، "من أين تخرجت؟" بل "ماذا تستطيع أن تفعل؟".
هذا التحول أسّس نموذجًا عالميًا للجامعة المستقلة، القادرة على الجمع بين المعرفة والمهارة والاستقلال الأخلاقي، وهو النموذج الذي احتذت به الجامعات العالمية الرائدة.
في الأردن، كانت البداية من الجامعة الأردنية، أول جامعة حكومية، وكان انشأوها نقطة مفصلية في تاريخ الدولة الحديثة. تبعتها جامعات اليرموك، ومؤتة، والعلوم والتكنولوجيا، قبل ظهور الجامعات الخاصة. ولا يمكن إنكار الدور الوطني لهذه الجامعات في بناء الدولة وتشكيل نخبها.
لكن ما حدث لاحقًا لم يكن تطورًا طبيعيًا، بل انحرافًا بنيويًا. توسع كمي غير مبرر في عدد الجامعات، مؤسسات تُنشأ بلا حاجة اقتصادية حقيقية، وتخصصات تُفتح بلا سوق عمل، وكوادر تتضخم بلا إنتاج معرفي متناسب. النتيجة جامعات مثقلة بالعجز المالي، تذهب معظم موازناتها للرواتب والنفقات التشغيلية، وبلا مرونة في القرار ولا أدوات ابتكار، وأصبح الاستقلال الأكاديمي يُعامل كترف، لا كشرط وجود. 
هنا لم تعد المشكلة قلة المال فقط، بل نموذج إدارة تقليدي استسهل الاتكاء على الدعم الحكومي (الحكومة لا تترك العاملين بدون رواتب)، ويرى في الجامعة مؤسسة خدمات لا مؤسسة إنتاج معرفة، وانتقل المسار من بناء النوع إلى إدارة الأعداد، ومن الاستثمار في البحث إلى إدارة الرسوم.
مع تراجع التمويل، وتضخم الجهاز الإداري، تحولت بعض الجامعات إلى جهاز إداري متضخم يحمل اسم جامعة. وهنا ينطبق قول ماكس فيبر "البيروقراطية حين تفقد عقلانيتها تتحول من أداة تنظيم إلى عبء خانق يعيد إنتاج الفشل". فبدل أن تكون الجامعة عقل الدولة، أصبحت عبئًا عليها.
كثيرون يختزلون الأزمة في نقص التمويل، وهذه جزء من الحقيقة، وأحيانًا ذريعة مريحة. المشكلة الأعمق كانت في سوء إدارة الموارد، وغياب الجرأة في اتخاذ قرارات صعبة، والخوف من الإصلاح الحقيقي. فأصبحت الجامعات تُدار بعقل إرضاء الجميع، لا بعقل حماية المؤسسة، فالنتيجة تضخم في اعداد العاملين بلا علاج، برامج راكدة لا تُغلق خوفًا من الضجيج، قيادات تُعيَّن بلا رؤية إصلاحية جوهرية.
والبعض يطرح السؤال، اين هدر ويهدر المال؟ وهل الخروج من الأزمة ممكن؟ الجواب على السؤال الأول، كان في سوء الإدارة مع غياب المسألة، وعلى السؤال الثاني، نعم، التجربة الأردنية نفسها تثبت ذلك. الجامعة الهاشمية، وجامعة العلوم والتكنولوجيا، كانت قبل عقد في وضع مالي مميز، وجامعة البلقاء التطبيقية، تمكنت قبل اقل من نصف عقد من الزمن، من التعافي عبر قرارات وصفت وقتها بالصعبة، مثل، إعادة هيكلة رسوم الاشتراك بالتامين الطبي، وهيكلة رسوم التعليم التقني والتطبيقي، والمؤامة بين اعداد أعضاء الهيئة التدريسية والإدارية، وإعادة تنظيم البرامج، والتوسع المدروس بالطاقة الاستيعابية مع الحفاظ على الجودة، وتطبيق سيادة القانون دون مهادنة على مصلحة المؤسسة لأي جهة كانت.  هذه التجارب تؤكد أن الأزمة ليست قدرًا.
في هذا السياق، برزت بعض الجامعات الخاصة الأردنية كلاعب صاعد. صحيح أن البدايات كانت استيعابية وربحية، وبقي بعضها أسير هذا المنطق، لكن بعضًا آخر طوّر التجربة، وتحول إلى فاعل معرفي واقتصادي حقيقي، لا بل ومنافس محليًا ودولياً.
ما ميّز هذه الجامعات لم يكن كونها خاصة، بل تحررها النسبي من القيود البيروقراطية، وسرعة اتخاذ القرار، والقدرة على تحديث البرامج، وبناء شراكات دولية، وربط التعليم بالمهارة وسوق العمل، ونجح بعضها في استقطب طلبة عربًا وأجانب، وأسهم في الاقتصاد الوطني ونقل المعرفة.
ان نجاح واستقرار بعض الجامعات الخاصة مالياً وادارياً واكاديمياً، وبلا دعم حكومي، كشف عمق أزمة الجامعات الحكومية. فإذا كانت جامعة بإعداد محدودة من الطلبة، قادرة على الاستقرار وتنجح دون تمويل، فلماذا تفشل جامعات تُموَّل جزئيًا من الدولة؟ هنا تصبح الأزمة لدى الجامعات الحكومية مركبة، إدارية ومالية وتعليمية وفكرية.
بعض الجامعات الخاصة، أثبتت أن النجاح والتميز ممكن، لكن المطلوب تحويل هذا النجاح إلى مشروع وطني مستدام، وهو يتطلب قرارًا سياسيًا وفكريًا شجاعًا. فإما أن نبني نظام تعليم عالٍ متكاملًا، تتنافس فيه المؤسسات على الجودة بعدالة، لا على العدد، أو نترك النجاح يتحول إلى استثناء، والفشل إلى قاعدة.
لكن هذا النجاح، لدى بعض الجامعات، لن يكون مكتملًا ولا مستداماً، ما لم تلحق الجامعات الأخرى بها. فالخطر الأكبر يتمثل في انزلاق البعض منها إلى منطق السوق الخالص، وهنا يصبح من الضروري الاخذ بتحذير أرندت "اختزال المؤسسات الكبرى في وظيفتها التقنية يفرغها من بعدها القيمي".
هنا يظهر التحدي الوطني الحقيقي، هل نترك الجامعات الخاصة تتقدم منفردة، والجامعات الحكومية تتآكل ببطء؟ أم نحول التجربة الناجحة إلى رافعة إصلاح للنظام بأكمله؟
البعض يبحث في الإخفاقات لدى الكثير من الجامعات، عبر اللجان والمجالس والندوات لمناقشة نوعية التعليم وجودته، والتصنيفات، لكن لا أحد يتطرق الى ان جوهر المشكلة، وهو أزمة فلسفة التعليم، والاجابة على سؤال، هل الجامعة مصنع شهادات، أم مصنع عقول؟ وهل هي مساحة تفكير حر، أم مؤسسة إدارية خاضعة؟
التجربة الأمريكية، في الجامعات، لم تنجح لأن الجامعات الخاصة تفوقت فقط، علماً ان الدولة دعمت الجميع بشكل مباشر او غير مباشر، لكنها تركت المنافسة تصنع التفوق. الجودة لديهم، تقاس بقيمة الخريج لا بالشهادة، وبقدرته على حل المشكلات، والعمل ضمن فرق، والقدرة على الابتكار، والتكيّف مع سوق متغير (لم يعد السؤال، من أين تخرجت؟ بل، ماذا تستطيع أن تفعل؟). 
في التجربة الأمريكية، استقلال الجامعات (الحكومية والخاصة)، ليس شعارًا، بل خطاً أحمر. التعيين والترقية والقيادة تخضع لمعايير علمية صارمة، السرقة العلمية جريمة مهنية تنهي المسار الأكاديمي، والجودة ليست انتقائية. 
في المقابل، تعاني بعض الجامعات الأردنية من اختلالات خطيرة، فما زال، الحفظ يتقدم على التفكير، والامتحان يتقدم على المهارة، والكم يتقدم على النوع. وهنا يستحضر المرء قول جون ديوي "إذا علّمنا طلاب اليوم بعقل الأمس، فإننا نسرق منهم الغد". كما ان بعض القيادات ضعيفة الكفاءة (وصلت الى الموقع القيادي، ليس بسبب التميز والقدرة القيادية، بل بفعل شبكات نفوذ أو توجيه)، وتدخلات غير أكاديمية، وترقيات بلا إنتاج حقيقي، والنزاهة الاكاديمية في خطر ((حيث أشار تقرير مؤشر النزاهة البحثية المركب الاخير، والصادر بتاريخ 11/12/2025، ان ستة جامعات في المنطقة الحمراء(بينما كانت في التقرير السابق خمس جامعات) منها جامعتين حكوميات، وأربعة جامعات في المنطقة عالية الخطورة (بينما في التقرير السابق كانت جامعتين)، ولا يوجد أي جامعة من الجامعات الأردنية قاطبة في وضع المراقبة (كما في التقرير السابق) او الامن))، واستبعاد الكفاءات القادرة على الإصلاح دون محابة او مجاملة او مساومة، وهو ما يهدم فكرة العدالة مهما بلغ حجم التمويل. 
هذه ليست تفاصيل، بل عوامل هدم مباشر لأي مؤسسة معرفية في العالم.
وهنا يظهر السؤال، هل ستتكرر التجربة الأمريكية في تفوق الجامعات الخاصة في الأردن؟ مع الاخذ بعين الاعتبار ان التجارب لا تُستنسخ، لكنها تُفهم. والتفوق لا يُشترى، بل يُبنى. 
الإجابة، نعم، إذا استمر المسار الحالي في الجامعات الحكومية دون إصلاح جذري، فإن بعض الجامعات الخاصة ستتقدم (وبالفعل اليوم، واحدة منها او أكثر تجاوزت معظم الجامعات الحكومية، من حيث الإدارة المالية والقدرة الإدارية، والجودة وفي التصنيفات العالمية، في الوقت الذي انسحبت منه بعض الجامعات لسبب او لآخر)، لا لأنها أفضل جوهريًا، بل لأنها أسرع في التحديث والتكيف. وكما يقول بيتر دراكر "المؤسسات التي لا تتكيف لا تموت فجأة، بل تتآكل ببطء".
التجربة الأمريكية لم تنجح لأنها أغنى، بل لأنها أوضح وأجرأ. أما نحن، فما زلنا نعرف المشكلة، ونتردد في مواجهتها.
الأردن لا يعاني من أزمة جامعات، بل من أزمة في فلسفة التعليم، ولا يحتاج مزيدًا من اللجان والاستراتيجيات، بل مشروعًا وطنيًا للتعليم العالي، تقوده قيادات اكاديمية لا إدارات، ويفرض حوكمة صارمة، وضبط حقيقي للجودة، ويضمن الاستقلال مع المساءلة، ويحاسب على القرار والأداء.
التحدي الوطني الحقيقي هو، هل نحول النجاح الجزئي إلى مشروع وطني شامل؟ أم نترك التعليم العالي ينقسم إلى تعليم نخبة وتعليم مُنهك للغالبية؟
وهنا تلتقي هذه القراءة مع التوجيهات الملكية على مدى أكثر من عقدين، التي شددت على الانتقال من التعليم القائم على الشهادة إلى التعليم القائم على المهارة، وربط الجامعات بسوق العمل، وتشجيع الابتكار واقتصاد المعرفة، فلا دولة حديثة بلا جامعة حديثة.
فالرؤية الملكية كانت مبكرة وواضحة، إعادة تعريف الجامعة، واستعادة دورها. السؤال الحاسم يبقى، هل نملك الجرأة للحاق بالرؤية الملكية، ولإصلاح فلسفة التعليم قبل فوات الأوان؟ وقبل أن تتحول أزمة التعليم العالي إلى أزمة دولة؟ فالقرار المطلوب ليس ماليًا فقط، بل فكريًا وسياسيًا شجاعًا، يعيد تعريف الجامعة، كمركز لإنتاج المعرفة، وشريك في التنمية، وعقل الدولة، ومحرك مستقبلها، وبخلاف ذلك ستبقى الإشكالية في ضعف الترجمة المؤسسية، وضعف في الجرأة التنفيذية، والتدخلات المختلفة، وبقاء النماذج الإدارية القديمة، ويستمر التراجع الى ان تنكشف الحقيقة، وعندها نكون امام ازمة أجيال، لا جيل واحد.
فإما أن نبني تعليمًا عاليًا يقود الدولة، أو نتركه يعيد إنتاج أزماتها.