هل ينقذ العقارُ العملة من تقلبات الذهب؟
المحامي الدكتور فواز أبو حجلة
قراءة في فكرة "عقرنة العملات" وفرص تطبيقها في "مدينة عمرة" الأردنية
في ظل الارتفاعات غير المسبوقة في أسعار الذهب وعدم استقراره كغطاء نقدي تقليدي، برزت على السطح أطروحات اقتصادية وصفت بـ "الثورية"، تدعو إلى فك الارتباط بالمعادن النفيسة والتحول نحو "الأصول الملموسة". ولأن قاعدة ربط العملة بالذهب: تقيّد كمية النقود بكمية الذهب المملوكة للدولة، كما انها عانت من مشكلات مثل السيولة، النقل، التقييد الدولي، وتقلب الاسعار.
هنا تأتي فكرة "عقرنة العملات" كأحد أبرز هذه الطروحات التي تحتاج اليوم، أكثر من أي وقت مضى، إلى دراسة وتمحيص دقيق من قبل خبراء الاقتصاد والمصرفيين.
يرجع الفضل في طرح هذه الفكرة الى سفر بن عايض الحارثي وهو باحث اقتصادي سعودي، وصاحب كتاب "عقرنة العملات: الثروة الأهم والأغلى". وهو أول من اوجد مصطلح:
"العقرنة" (Real Estatization of Currencies)
وهو مصطلح يجمع بين "العقار" و"العملة"، ليقترح نظاماً نقدياً بديلاً للنظام الحالي. ولم يكتفِ بطرح الفكرة كعنوان، بل ألف كتاباً كاملاً (أصدره في السنوات الأخيرة) يضع فيه القواعد الاقتصادية لكيفية تحويل الأصول العقارية إلى غطاء نقدي بنسبة 100%.
كما اقترح نظاماً تقنياً يُعرف باسم (UIINSR) لضمان دقة تقييم العقارات وجعلها قابلة للتسييل والمقايضة بالعملات، وهو ما يميز طرحه عن مجرد "رهن العقارات" التقليدي.
وتقوم الفكرة الجوهرية للحارثي على تغطية العملات الوطنية بأصول عقارية (أراضٍ، مساكن، منشآت) بدلاً من الذهب. وينطلق الماجد من حقيقة أن الثروة العقارية هي الأضخم عالمياً، حيث قُدرت بنحو 320 تريليون دولار في عام 2021، متجاوزة قيم الذهب والنفط. والأساس المنطقي لهذه الفكرة معالجة شح غطاء الذهب وسلبياته، وتعزيز الثقة في النظام النقدي، ومواجهة التضخم والديون السيادية.
وتوجد سوابق تاريخية مشابهة لفكرة الغطاء العقاري/العيني التي يُقصد بـها في سياق العملات استخدام أصول مادية ملموسة مثل الرهونات على الأراضي، العقارات، أو الموارد الإنتاجية كضمان لدعم قيمة النقود الورقية، بدلاً من الذهب أو الفضة، لاستعادة الثقة في ظروف تضخم أو انهيار نقدي.
مثل:
•1- الـRentenmark وهي عملة ألمانية مؤقتة أُصدرت في 1923، صدرت هذه العملة خلال التضخم المفرط في جمهورية فايمار لوقف الانهيار النقدي، مدعومة برهونات على الأصول الزراعية والصناعية نجحت مرحلياً بفضل سياسات صارمة مثل تحديد الكميات المحدودة، حظر الطباعة الإضافية، والضرائب الجديدة، مما أعاد الاستقرار قبل الانتقال إلى رايخسمارك مدعوم بالذهب.
2- "مصرف الأراضي" عند جون لو (1705): اقترح الاقتصادي الأسكتلندي جون لو في فرنسا إنشاء مصرف يصدر نقوداً مدعومة بقيمة الأراضي والعقارات (رهونات تصل إلى نصف قيمتها)، كبديل للمعادن النقدية المحدودة. التجربة الفكرية أثرت في النظريات النقدية، لكن التطبيقات اللاحقة (مثل في اسكتلندا وفرنسا) فشلت بسبب فقاعات ائتمانية، إفراط في الإصدار، وانهيار الثقة أثناء أزمات.
3- الأسينيا الفرنسية (1789–1796): أُصدرت هذه الأوراق النقدية أثناء الثورة الفرنسية، مدعومة بأراضي الكنيسة المصادرة (كرهونات عقارية)، لتمويل الديون والحرب. تحولت إلى تضخم جامح (انخفضت قيمتها بنسبة 99.9%) بسبب الإفراط في الطباعة (زيادة 200 ضعفاً)، عدم وجود قيود إصدار موثوقة، وضعف الحوكمة، مما أدى إلى إلغائها بعد فوضى اقتصادية.
وتبدو فرص نجاح هذه الفكر عالية خاصة في دول تملك قاعدة عقارية قوية، لأن ربط العملة بهذه الأصول:
•يعزّز الثقة لدى المواطنين والمستثمرين لأن "المال مدعوم” بأصل ملموس.
•قد يُساعد على خفض التضخم إذا كانت كمية العملة محكومة بأصل ثابت، ويُقلِّل من خطر "طباعة نقود بلا غطاء”.
•يفتح فرصة للدولة لتفعيل أصولها العقارية غير المستغَلة كمصدر إيراد وزيادة قيمة الاستثمار العقاري.
•في حال وجود إدارة جيدة، يمكن أن يكون ذلك إطاراً لاستقرار مالي ونقدي طويل الأمد، ودعم لسداد الديون السيادية.
لكن لماذا تطبيق هذه الفكرة في الأردن؟ وبداية في "مدينة عمرة" كتجربة؟
يمتلك الأردن بنية عقارية وقانونية قد تجعل منه أرضاً خصبة لاختبار أجزاء من هذه الفكرة. ومع إعلان الحكومة الأردنية عن مشروع "المدينة الجديدة" (مدينة عمرة)، يمكن القول بأن هذا المشروع الضخم يمثل فرصة ذهبية لتطبيق نموذج "العقرنة" ولو بشكل جزئي. وذلك للأسباب التالية:
•استغلال أراضي الدولة: يمتلك الأردن مساحات شاسعة من أراضي الدولة، خاصة في المناطق المخصصة للمدينة الجديدة، والتي يمكن تحويلها إلى "صندوق غطاء نقدي عقاري" يدعم القيمة الاقتصادية للدينار أو السندات الحكومية.
•بديل لتقلبات الذهب: في وقت يعاني فيه العالم من تذبذب أسعار الذهب، يوفر العقار أصلاً محلياً ثابتاً يمنح الثقة للمستثمرين لأن "المال مدعوم" بأصل ملموس على الأرض.
•تنشيط القطاع العقاري: تساهم الفكرة في تحويل العقار من مجرد أصل جامد إلى محرك للسياسة النقدية، مما يرفع مساهمة هذا القطاع في الناتج المحلي الإجمالي، والتي تصل في بعض الاحيان لنحو 18.3%.
ويمكن تطبيقها عملياً عن طريق:
1.حصر وتقييم الأصول: إعداد سجل وطني للأصول العقارية القابلة للاستخدام كغطاء، مع معايير تقييم دورية شفافة.
2.هيكلٌ حامل للغطاء: إنشاء «صندوق غطاء نقدي عقاري» (سيادي/عام) تُسجَّل فيه الأصول ويخضع لحوكمة صارمة وتدقيق مستقل.
3.قاعدة ربط نقدية: يحدد البنك المركزي نسبة إصدار العملة إلى صافي قيمة الأصول((LTV، ويُراجَع دوريًا مع تغير الأسعار.
4.إدارة السيولة والتحويل: تصميم آليات امتصاص/ضخ السيولة (عمليات سوق مفتوحة، شهادات قصيرة الأجل) كي لا تتحول صدمات أسعار العقار إلى تقلبات نقدية حادة.
5.ضوابط الرفع المالي: منع تمويل الغطاء نفسه بديون مفرطة على تلك الأصول.
هذه الخطوات تُشبه هندسة أي نظام غطاء مادي، لكن بتحدّي التقييم والسيولة العقارية مقارنة بالذهب. (التجارب التاريخية السابقة توضح الدروس).
ورغم الجاذبية النظرية لهذه الفكرة، إلا أننا يجب ان نضعها في ميزان النقد العلمي فمن الناحية المنطقية، هي تعيد الاعتبار لـ "الغطاء المادي" الذي افتقده النظام النقدي الحديث. لكن تبرز تحديات جسيمة أمام تطبيقها في الأردن للأسباب التالية:
1.معضلة السيولة: العقار، بخلاف الذهب، أصل يصعب تسييله بسرعة عالمياً.
2.التقييم والحوكمة: تطبيق الفكرة يتطلب نظام تقييم رقمي دقيق وعادل لضمان عدم حدوث "فقاعات عقارية" تؤدي لانهيار العملة.
3.الارتباط بالدولار: يرتبط الدينار الأردني بالدولار منذ عام 1995، وأي تحول نحو "قاعدة عقارية" يجب ألا يقوض هذا الاستقرار الذي يحميه البنك المركزي.
لذا قد يبدو النهج الأكثر واقعية للأردن ليس التحول الشامل المفاجئ، بل الانطلاق عبر "سندات سيادية مغطاة عقارياً" مرتبطة بأصول مدينة عمرة، علما بأن تطبيق فكرة "عقرنة العملات" تظل رؤية مبتكرة تنفيذها يتطلب تجاوز تحديات لوجستية وتشريعية ومالية وسياسية ضخمة جداً، أبرزها مشكلة سيولة الأصول العقارية وتقلباتها.
وهي تضعنا أمام اختبار حقيقي: هل يمكن للأرض أن تمنح العملة الثبات الذي عجز عنه المعدن الأصفر؟
ويمكن تلخيص فرص نجاحها وتحدياتها فيما يلي:
فرص نجاح الفكرةالتحديات (المعوقات)
قيمة الغطاء الضخمة: الثروة العقارية تتجاوز قيمتها جميع الثروات الأخرى مجتمعة، مما يوفر غطاءً قوياً وموثوقاً.السيولة والتوحيد: العقارات أقل سيولة بكثير من الذهب أو العملات، كما أن تقدير قيمتها يختلف حسب الموقع والوقت، مما يصعب توحيدها كأصل نقدي عالمي.
دعم الاقتصادات المحلية: يربط قيمة العملة بأصل محلي (العقارات في كل دولة)، مما يعمق الثقة بالاقتصاد المحلي ويُساهم في توليد إيرادات ضخمة لخزينة الدولة لسداد الدين العام.المخاطر العقارية: قيمة العقارات عرضة للفقاعات والهبوط الحاد (كما حدث في الأزمة المالية 2008)، وهذا قد يزعزع استقرار الغطاء النقدي بالكامل.
الشمول المالي والتملك: آليات التجزئة الجديدة وتملك المساكن بسعر التكلفة تحقق أهدافاً اجتماعية واقتصادية هامة، وتسمح لرؤوس الأموال الصغيرة بالاستثمار.التطبيق اللوجستي والتقني: إنشاء نظام (UIINSR) وتوحيد معايير تجزئة عقارية دقيقة على مستوى عالمي يتطلب بنية تحتية تقنية وقانونية هائلة ومعقدة.
الأهمية الإنسانية: العقار ضرورة في جميع شؤون الحياة وتمتد أهميته إلى ما بعد الممات، مما يجعله أصلًا أساسيًا بقيمة ثابتة ومستمرة.المقاومة الدولية: التحول من نظام قائم على الدولار/الذهب/النفط إلى نظام جديد يواجه مقاومة هائلة من القوى الاقتصادية الكبرى والمؤسسات المالية العالمية القائمة.
وإذا كانت هذه الفكرة الثورية قد اثارت الهواجس والمخاوف لدى البعض على ضوء المخاطر والتحديات التي اوردناها خاصة ان تطبيق هذه الفكرة سيكون سابقة، فإن النهج البديل هو الانطلاق بأدوات مغطاة عقارياً وصندوقٍ سيادي عقاري بدلاً من تحويل شامل إلى «قاعدة عقارية 100%» مع الإبقاء على ربط الدينار بالدولار كمرساة استقرار، مستفيدين من ثِقل القطاع العقاري وحيازة الدولة للأراضي ضمن حوكمة وتقييم صارمين. وعليه فإنه يمكن اللجوء لسيناريوهات عملية أخرى (منخفضة المخاطر نسبيًا) مثل:
1.سندات/شهادات سيادية مغطاة عقارياً: إصدار أدوات تمويل حكومية مضمونة بمحافظ أصول عقارية عامة، بما يدعم تمويل البنى التحتية ويختبر آليات التقييم والحوكمة.
2.صندوق سيادي عقاري: تجميع أصول الدولة القابلة للتأجير/التطوير في صندوق مستقل، تُستخدم توزيعاته كرافعة مالية للمالية العامة، دون المساس بإطار الربط النقدي القائم.
3.ربطٌ جزئي/تكميلي: تبنّي قواعد احترازية تجعل نمو الكتلة النقدية منسجمًا مع نمو صافي قيمة محفظة الأصول العامة (مؤشر إرشادي لا قاعدة صارمة)، للحفاظ على مرونة السياسة النقدية والربط بالدولار.
وكل ذلك يجب ان يكون وفق شروط الحوكمة التي تتضمن:
•معايير تقييم وطنية متوافـِقة دوليًا، وتحديثات ربع/نصف سنوية مع هوامش أمان.
•إطار ملكية ورهن وتسجيل رقمي موحّد عبر «الأراضي والمساحة»، وقابل للتدقيق العام.
•صمامات نقدية لدى «البنك المركزي» تضمن ألا تنتقل دورات العقار إلى اضطراب في السيولة أو الضغط على الربط.