المحارمة يكتب: من عراق الريادة إلى مرتع الكراهية
جفرا نيوز- عمر المحارمة
ما كُتب في افتتاحية صحيفة "الحقيقة" العراقية قبل ثلاثة أيام، لا يمثّل مجرد انفعال رياضي عابر أو رأياً صحفياً متطرّفاً يمكن إدراجه في خانة السجال الإعلامي المعتاد، بل هو تعبير فجّ عن حالة انحطاط عميقة أصابت جزءاً من الطبقة الإعلامية والثقافية في العراق، حالة لم تعد تكتفي بإسفاف اللغة، بل باتت تمارس التحريض بوصفه وظيفة، وتُقايض المهنية بالكراهية، وتستبدل النقد الموضوعي بالتحريض الرخيص.
وهذه الحالة لا يمكن فصلها عن السياق السياسي الذي أُغرق فيه البلد منذ عقود، ولا عن القوى التي عملت – ولا تزال – على تدمير منظومة القيم، وتشويه الوعي الجمعي، وتحويل الإعلام من أداة تنوير وبناء رأي عام رشيد، إلى أداة تعبئة، وتخوين، وتصفية حسابات تخدم أجندات خارجية لا علاقة لها بمصلحة العراق ولا بمستقبله.
هذا الانحدار لم يأتِ من فراغ، فالعراق، خلال العقود الأخيرة، تعرّض لسلسلة غير مسبوقة من الحروب المدمّرة، والحصار الخانق، ثم الاحتلال، وما تبعه من تفكيك ممنهج للدولة ومؤسساتها، وتطييف السياسة، وتسليح الهويات الفرعية، وإقصاء النخب الطبيعية، وإحلال الولاء محل الكفاءة.
وكانت النتيجة تآكلاً عميقاً في البنية الثقافية والأخلاقية للمجال العام، وصعود أصوات إعلامية مأزومة، لا تملك مشروعاً ولا رؤية، فتستبدل التحليل بالتحريض، والنقد بالشتيمة، وتبحث عن عدو خارجي تُسقِط عليه فشلها، للهروب من مواجهة أسباب الانهيار الداخلي الذي لا تريد الاعتراف به.
ومن المؤسف أن هذا الخطاب يتجاهل عمداً حقيقة تاريخية راسخة: أن العراق في القرن الماضي كان أحد أعمدة النهضة العربية الحديثة، بل ركيزة من ركائزها الأساسية.
فخلال النصف الأول من القرن العشرين، ثم في الستينيات والسبعينيات وحتى الثمانينات، كان العراق دولة رائدة في التعليم، والثقافة، والعلم، والإدارة، وكانت بغداد حاضرة العرب الفكرية، وملتقى الأدباء والمفكرين، ومنارة للصحافة والفكر والفنون. وكانت الجامعات العراقية قبلة للطلاب العرب في الطب والهندسة والعلوم والآداب، ومختبراً لإنتاج النخب لا لتدميرها.
كما عرف العراق طبقة وسطى متعلمة، ومستوى معيشياً راقياً، وحياة ثقافية نابضة جعلته مقصد العرب الباحثين عن العلم والعمل والعيش الكريم.
ذلك العراق لم يكن يعرف هذا المستوى من الخطاب المنحط، ولم يكن يسمح بإهانة الشعوب، ولا بازدراء الجغرافيا، ولا بالسخرية من الأرزاق، حتى في أشد الخلافات السياسية.
واستحضار هذا التاريخ ليس حنيناً عاطفياً للماضي، بل إدانة أخلاقية صريحة للواقع الذي أوصل العراق إلى أن يُمثَّل، إعلامياً، بأصوات تسيء إليه قبل أن تسيء لغيره، وتشوّه صورته أكثر مما شوهتها الحروب.
إن استهداف الأردن في هذا المقال لا يمكن فصله عن السياق السياسي الأوسع، وتحديداً عن دور التيارات الموالية لإيران داخل العراق، وهي تيارات لا تعمل بمنطق الدولة الوطنية، ولا تفكّر بعقل السيادة، بل بمنطق الساحة والوكالة.
هذه القوى، السياسية والإعلامية، أدمنت العداء لكل ما هو عربي مستقل، وسعت بشكل منهجي إلى سلخ العراق عن محيطه العربي، وتشويه علاقاته الطبيعية مع دوله الشقيقة، وفي مقدمتها الأردن، لأنه يمثّل نموذجاً عربياً مغايراً لما تريده تلك المشاريع.
المشروع الإيراني في المنطقة ليس مشروع بناء دول، بل مشروع تفكيك كيانات، وانقسام مجتمعات، قائم على ضرب الهويات الوطنية، وتغذية الصراعات الطائفية، وتحويل الإعلام إلى أداة تعبئة وكراهية.
وكان العراق الهدف الأثقل لهذا المشروع، حيث جرى استنزافه باسم "المقاومة" و"الهوية"، بينما سُرقت دولته، وضُرب نسيجه الاجتماعي، وأُقصيت نُخبه، وأُغرق في فوضى لا نهاية لها، وما الخطاب التحريضي إلا أحد أعراض هذا الخراب العميق.
ومن الطبيعي، في هذا السياق، أن يُستهدف الأردن، لأنه يمثّل نقيض هذا النموذج.
فالأردن دولة عربية مستقرة، ذات قرار وطني مستقل، غير ميليشياوية، تحكمها مؤسسات لا بنادق، وتحافظ على نسيجها الاجتماعي رغم محدودية الموارد، وضغط الإقليم المضطرب، وتقلّبات الجغرافيا السياسية.
هذا الاستقرار لم يكن هبة مجانية، بل نتاج وعي سياسي، وبناء مؤسسي تراكمي، وقدرة على إدارة الأزمات دون الانزلاق إلى الفوضى، وهو ما يثير حنق وحسد القوى التي لا تعرف إلا منطق الصدام والتخريب.
حتى في المجال الرياضي، حيث يفترض أن تكون المنافسة شريفة، يظهر هذا الحسد بأوضح صوره.
فالأردن يعيش اليوم واحدة من أفضل فتراته الكروية، إن لم تكن الأهم في تاريخه، بمنتخب وطني تطوّر فنياً وتنظيمياً، ونافس بقوة، وفرض احترامه في البطولات الآسيوية، ووصل إلى مراحل غير مسبوقة بجهد لاعبين، وتخطيط فني، ودعم جماهيري راقٍ.
وهذه النجاحات لم تأتِ بالصدفة، بل كانت امتداداً لحالة استقرار عامة انعكست على الرياضة كما انعكست على التعليم والصحة والمؤسسات، وهو ما يزعج من اعتاد أن يرى الفشل حالة طبيعية، ويضيق صدره حين يرى نموذجاً عربياً ينجح دون ضجيج.
الأردن لم يكن يوماً عدواً للعراق، بل كان على الدوام سنداً له.
فتح أبوابه لمئات الآلاف من العراقيين في أصعب مراحل تاريخهم، وقدّم لهم الأمان والعمل والتعليم والعلاج، وساند العراق بالكهرباء والمساعدات الإنسانية، وتقاسم مع اللاجئين موارده المحدودة دون منّة أو استعراض.
وهذه حقائق يعرفها العراقيون جيداً، ويشهد بها الواقع، مهما حاول الإعلام المأجور طمسها أو تشويهها.
ومن المهم التأكيد أن العراق ليس كتلة واحدة ولا موقفاً واحداً.
فمكوّنات واسعة من الشعب العراقي، في غرب العراق وشماله وجنوبه، وفي مدنه وعشائره ونخبه الاجتماعية، تكنّ مشاعر تقدير واحترام حقيقية للأردن وللعرب عموماً.
أبناء الأنبار ونينوى وصلاح الدين، وكثير من العراقيين في بغداد والموصل والبصرة، يعرفون من وقف معهم حين ضاقت بهم السبل، ومن احتضنهم بكرامة، ويرفضون أن يُختطف صوتهم لصالح أقلية صاخبة أو أقلام مؤدلجة.
أما الزعم بأن الإساءة للأردن ناتجة عن خلاف رياضي، فهو تضليل فجّ ومكشوف.
فالحقيقة التي يعرفها الجميع أن كل منتخب عربي واجه المنتخب العراقي في السنوات الأخيرة تعرّض لسيل من الشتائم والهجوم والتخوين، سواء كان من بلاد الشام أو الخليج أو شمال أفريقيا، ما يؤكد أن المشكلة ليست مع "النشامى"، بل في أزمة أخلاقية وإعلامية أوسع، غذّاها خطاب سياسي مسموم، وحوّل الرياضة من مساحة تنافس شريف إلى ساحة تفريغ أحقاد سياسية وطائفية.
ما كُتب بقلم كُتيّب أجر قلمه وباع وطنه لمشروع صفوي فارسي، لا يمثل الشعب العراقي، ولا تاريخه، ولا ثقافته، بل يمثل خطاً إعلامياً وسياسياً معروفاً، يعيش على الكراهية، ويتغذى على الفشل، ويخدم مشاريع لا تريد للعراق أن يستعيد دوره العربي ولا مكانته الحضارية.
العراق الذي كان قبلة العرب للعلم والثقافة والحياة الكريمة، أكبر من صحيفة، وأعمق من كاتب، وأسمى من خطاب تحريضي عابر.
أما الأردن، فسيبقى كما كان: دولة عربية مستقرة، واثقة من نفسها، تنجح بصمت، وتحترم جيرانها، وتدرك أن ما يجمع الشعوب العربية أقوى وأبقى من كل حملات التشويه، وأن أصوات الحقد والحسد، مهما علت، تبقى عابرة أمام حقائق التاريخ وصلابة الدول.
ختاما، لابد من إثارة كل علامات التعجب والاستغراب من صمت القنوات الدبلوماسية والنقابية عن الإهانة التي حملتها إفتتاحية صحيفة يومية، فلو كان الأمر معاكسا لكان أحدهم اليوم في غيابة السجن بتهم تعكير صفو العلاقات مع دولة شقيقة ولوجدنا خطابا ناريا من نقابة الصحفيين العراقيين يطالب نقابة الصحفيين الأردنيين بمحاكمة الصحيفة والكاتب، لكنها سياسة "التجبجب" وتصغير الأكتاف المعهودة.