طهبوب يكتب: امرأة غير قابلة للانكسار (2-3)
عامر طهبوب
لم يتخل خضر المغربي عن الطربوش حتى وفاته، تماماً كما فعل جدي، وكانت محاسن الإمام ترى في طربوش أبيها الأحمر عنواناً للأنفة: «علّمني معنى الكرامة والكبرياء، كريم جداً، عصامي، يردد على مسامعي دوماً مقولة: رب ضارة نافعة»، هذا بعض ما قالته عن أب يصحبها بسيارته «الدودج» الحمراء، من طراز 1955 لفتح صندوق بريدهم في مبنى البريد بوسط البلد، يفتح الصندوق رقم 36 قبل أن يقطع الشارع لدعوتها على غداء في مطاعم الأردن، وأحياناً إلى مطعم صبحي جبري، أو إلى مطعم القدس بعد افتتاحه.
أي خصوصية منحها خضر لابنته؛ تجلس قبالته وهي تحدق في رقم سيارته التي تتوسط اللوحة من الأمام والخلف: «100»، وللأرقام دلالات ظلت محفورة في ذاكرة الصبية حتى كبرت، لا تقبل برقم يقل عن المائة، وبعمل لا يتقن مائة بالمائة، يصحبها معه إلى مكتبه في شارع السلط مقابل سينما زهران، ثم إلى سوق الخضار في الجبل الذي يديره تيسير قبعه وإخوانه، وتميز بالنظافة والترتيب.
تأثرت ذائقة الفتاة بطعم أطباق المعمول التي يتبادلها الناس في الأعياد، وبمفاهيم الرحمة والمحبة والجمال، رائحة زهر الليمون والبرتقال والياسمين، وأشجار مختلفة انتشرت في بساتين الجبل، الخروب، والأسكدنيا، والخوخ، والتين، والتوت، والتصالح الذي ساد العلاقات بين الناس منذ كانت تلعب مع أولاد الخوري، وسبانخ، والبيات، وفاشه في شوارع الجبل قبل أن تتعرف على لميعه بسيسو التي تحول بيتها إلى مقر رئاسة الوزراء في اللويبدة، ثم المدرسة العربية بإدارة حورية الزعيم، وقبل أن يتحول ثانية إلى دارة للفنون. هنا اختلف إيقاع الحياة، تزوجت الفتاة من شاب يخدم في الجيش العربي الباسل، وهنا شيء آخر يجمعنا، فالزوج من عائلة الشريف الخليلية العريقة، وهم أخوال أبي، فجدتي لأبي «ثريا»، تنتسب إلى هذه العائلة الصوفية التقية.
المرأة حامل في ابنتها البكر «نور»، وتعيش في محيط أمني متشنج، وتفجر الوضع برمته، وهي تخشى على نفسها من ولادة مبكرة، يجتمعون في بيت الأب، يكتنفهم الخوف، وقلق ممزوج بمشاعر «تَوَهان»؛ تلك هي المفردة التي استخدمتها في وصف الأوضاع عام 1970.
«كنت أبكي على الوضع الذي وصلنا إليه، عشت مشاعر يصعب وصفها أو الحديث عنها»، هذا ما قالته بعد سنوات طويلة من عودة الأمن إلى الجبل، ثم صعدت منها تنهيدة متحشرجة: «من يريد استعادة فلسطين، عليه أن يحافظ على تراب الأردن». صرختُ وقلت: تلك مدرستي يا محاسن، هكذا أفكر. هذا هو يقيني.