السهيل تكتب: الشاعرين العرموطي والكوفحي
منذ أن وُلد الحرف في الوعي العربي، ظل الشعر نافذةً للوجدان وذاكرةً للزمن ومقياسًا للجمال؛ فهو الفن الذي صاغ رؤية العربي للعالم، ورافق الإنسان في أفراحه وأحزانه، وارتقى بلغته حتى غدت القصيدة مرآة الروح وسجلّ التجارب. وفي هذا الامتداد الطويل، يأتي صوت الشاعر المعاصر استمرارا لنبضٍ قديم، وتجسيدا لعلاقة الإنسان بالكلمة التي لا تزال حتى اليوم قادرة على كشف الحقيقة وتجميل العالم في آنٍ واحد.
ولعلّ سرّ خلود الشعر أنه ظلّ قادرا على أن يكون مرآةً للروح ونافذةً للمعنى، مهما تغيّرت الأزمنة وتبدّلت الوسائط. فهو الفن الذي يثبت أن اللغة ليست مجرد وسيلة للتعبير، بل وسيلة للوجود ذاته.
ومع التوقف عند المشهد الأردني الحديث، نلمس حضورا شعريًا يزاوج بين أصالة البيان وتطلعات الحداثة. ويتقدم هذا المشهد الدكتور إبراهيم الكوفحي، الشاعر الذي يكتب بروحٍ تمزج المعرفة والبصيرة والوجدان الإنساني، وتتعامل مع القصيدة باعتبارها مسؤولية جمالية وأخلاقية لا تقل قيمة عن جمال العبارة وبلاغة الصورة.
ويمتلك الكوفحي قدرة فريدة على أن يحوّل الألم إلى حكمة، واليقين إلى صورة، والقلق إلى سؤال مفتوح، ويظهر هذا في كثير من نصوصه، كما في قوله:
«ثلاثونَ عامًا… وما زلتَ تعدو وراءَ السراب
وتقتلك نارُ الظّمأ… لا ماءُ يروي… ولا ثمر»
هنا يضع الشاعر القارئ أمام صورة عطشٍ وجودي، حيث يتحوّل السراب إلى استعارة كبرى عن رحلة الإنسان في بحثه عن اليقين.
وفي هذا البيت تظهر فلسفة الشاعر في مواجهة الوهم والبحث عن الحقيقة، وتبرز نبرته الأخلاقية في قوله المعروف:
«أأشبعُ والناسُ حولي تموت؟
وإنّ الظّلمَ داءٌ قديم»
وهي شهادة على شاعر يرى القصيدة امتدادًا لضميره، ويربط بين الجمال والواجب الأخلاقي، وبين اللغة والموقف. وهنا يتجلّى البعد الأخلاقي للشعر، حيث يصبح الضمير جزءًا من البنية الفنية.
ومع التعمّق في ديوان «الأعمال الشعرية» لإبراهيم الكوفحي، لفت نظري نوع من أنواع الأدب الذي كاد أن يندثر لولا بعض الشعراء؛ فقد فوجئت بصفحات تحمل أدب المراسلات بين الدكتور إبراهيم الكوفحي والدكتور علاء الدين العرموطي، وهو حضور نادر يعيد لهذا اللون مكانته، ويكشف جانبًا آخر من التجربة.
وإذا كان الشعر عند الكوفحي موقفًا أخلاقيًا، فإن المراسلات مع العرموطي تكشف عن بعدٍ آخر للشعر، هو بعد الصداقة والوفاء. وإذا كان الكوفحي يكتب من موقع الشاعر الحكيم، فإن العرموطي يضيف إلى النصوص بُعد الناقد الصديق الذي يقرأ بحبّ.
فالمراسلات بين الكوفحي والعرموطي لم تكن تبادلاً عابرًا للكلمات، بل امتدادًا لفهم عميق لطبيعة الشعر ودوره. وقد عرف العرب هذا اللون من الأدب منذ القرون الأولى، حين كانت الرسالة مرآة لصوت الكاتب، ومساحة لبوحٍ صادق لا يقوله صاحبُه في العلن. وهكذا تأتي مراسلاتهما امتدادًا لهذا التراث، لكنها تتخذ روحًا شخصية عفوية تجمع بين الشاعر وصديقه.
وفي إحدى رسائله، كتب الدكتور إبراهيم الكوفحي إلى صديقه بلهجة شاعرٍ ورفيق:
«بارك الله فيك يا علاءُ،
وهَدَتْك الحلوةُ التي تتلالأ…»
(من تهنئته له بالمولودة)
وهنا يبدأ ذاك السجال الوديّ، فيردّ الدكتور علاء الدين العرموطي بردود شعرية تُعد من أجمل ما كتب في مراسلاته.
بهذا البيت يعلن العرموطي أن الشعر ليس مجرد فن، بل رابطة وجدانية تتجاوز حدود الدم والجغرافيا. وهو بيت يلخّص رؤيته للعلاقة الإنسانية؛ فالقرب الحقيقي عنده قربُ الفكرة واللغة، لا قرب النسب ولا المكان.
وفي مقطع آخر يذكّر صديقه بأن الشعر ليس جهدًا عقليًا فحسب، بل شعلة حياة تنقذ الروح من برودة العالم:
«ما لا تَحيطُ به الوَرَى
ولا يقومُ به مُجرَّدُ
فارجعْ هُديتَ إلى الغناءِ
العذبِ والكلمِ المُنضَّدِ
ودَعِ السكونَ وعُدْ إلى
لهبِ القصيدةِ فهو أبردُ»
المفارقة في قوله «لهب القصيدة فهو أبردُ» تكشف عن شاعر يرى في الإبداع خلاصًا من صمت العالم، ودفئًا يتجاوز برودة السكون.
هنا يستدعي الشاعر لحظاتٍ من الصفاء وسط عتمة الأيام، ويعبّر التكرار «نحن—نحن» عن رجفة إنسانية تكشف هشاشة الإنسان أمام الزمن، وقدرته على تحويل التجربة إلى لغة ناضجة ورقيقة.
ومع قراءة ديوان الكوفحي تتضح ملامح شاعر ينحاز إلى الحكمة، وإلى الإنسان قبل كل شيء، بينما تكشف مراسلات الدكتور علاء الدين العرموطي عن شاعر ناقد، قادر على قراءة النصوص بعمق، ورؤية خلف اللغة ما يريد الشاعر قوله، دون أن يفصح.
وهكذا يتشكّل كتاب يضيف للمشهد الأدبي الأردني قيمة واضحة؛ قيمة تقوم على الحوار لا على الاستعراض، وعلى التفاعل لا على المفاضلة. إن هذا التلاقي بين شاعرٍ يكتب من ضمير التجربة، وآخر يقرأ بعين الناقد المحب، يمنح النصوص حياةً ثانية تتجاوز حدود القصيدة لتصبح حوارًا إنسانيًا.
فالرسائل بينهما ليست تبادلًا للأبيات فحسب، بل وثيقة أدبية وإنسانية تعكس مكانة الشعر في حياة الشاعرين، وتظهر كيف يمكن للكلمة أن تجمع بين قلبين ورؤيتين وتجربتين. إن صفحات المراسلات بين الكوفحي والعرموطي مثال نادر على تداخل التجربة الشعرية مع الوعي النقدي؛ فهو حوار ممتدّ بين شاعرٍ يرى في اللغة ضميرًا، وآخر يرى فيها مرآة للروح. ومعًا يشكّلان صورة حيّة للشعر حين يكون أثرًا وعمقًا.
وهكذا تكشف مراسلاتهما أن الشعر ليس كلامًا يُكتب فقط، بل هو طريقة للتواصل والتقارب. فهي رسائل تحمل حياة ومشاعر حقيقية، وتضيف إلى الأدب الأردني بعدًا إنسانيًا يجعل الشعر أقرب إلى القلب وأكثر بساطة في فهمه.
وتبقى هذه المراسلات شاهـدة على أن اللغة العربية قادرة على أن تحضر بقوّتها وشاعريتها حتى في أبسط الرسائل، وأنها ليست لغة صعبة كما يُشاع، بل لغة حيّة يمكن أن تتألق حتى في رسالة واتس آب.
وبهذا، تتحوّل هذه الرسائل إلى سجلّ أدبي وإنساني، يذكّرنا بأن الشعر حين يُكتب بصدق تصل الرسالة ليس فقط إلى المرسل إليه، ويصبح ذاكرة تضيف حضورًا مختلفًا للأدب العربي والأردني، لتؤكد أن الكلمة الصادقة قادرة على أن تربط بين القلوب قبل الصفحات.