حين يتحوّل التقاعد المبكر لنزيف اقتصادي
بقلم: زيد أبو زيد
في ظل التحولات الاقتصادية والاجتماعية التي يشهدها الأردن، يبرز ملف التقاعد المبكر بوصفه واحداً من أكثر الملفات تعقيداً وإثارة للجدل. فهو ليس إجراءً إدارياً محدود الأثر، بل قضية وطنية تمس الإنسان، والاقتصاد، واستدامة الدولة، وتلامس صيرورة الخبرة في مؤسساتها. واستخدام كلمة صيرورة هنا هو الصواب؛ لأنها تعبّر عن التحول التراكمي للخبرة عبر الزمن، لا مجرد سير إجراء أو مسار إداري كما تعني كلمة سيرورة.
لقد تحول التقاعد المبكر إلى ظاهرة لها آثار متداخلة تشبه حلقات متصلة لا يمكن فصلها: حلقة اجتماعية، وأخرى مالية، وثالثة تنموية، ورابعة إدارية. وكلّها تشكّل منظومة ضغط تتراكم عاماً بعد عام.
⸻
أولاً: التقاعد المبكر… هجرة قسرية للكفاءات
رغم التعديلات المتكررة على قوانين وأنظمة الضمان الاجتماعي، ما يزال الإقبال على التقاعد المبكر مرتفعاً، مدفوعاً بضغوط معيشية قاسية وبيئة وظيفية فقدت جاذبيتها، وغياب محفزات التطوير المهني. وهكذا وجد آلاف الأردنيين—من أصحاب الخبرة التراكمية—أن البقاء في الوظيفة حتى سن الستين خيار مكلف وغير مُجدٍ.
نتج عن ذلك خروج شريحة واسعة من الموظفين يمكن وصفها بأنها:
"القادرون على العمل… لكن خارج الدورة الاقتصادية.”
وهؤلاء لا يمثلون رقماً فقط، بل يمثلون مخزوناً معرفياً استثمرت الدولة عقوداً في بنائه، ثم خسرته بقرار إداري متسرّع.
⸻
ثانياً: السوق يلتقط من تطرده الدولة
تفضّل معظم شركات القطاع الخاص—بطبيعة عملها وسعيها للربح—الكفاءات الجاهزة والمدرّبة. ولذلك، فقد استفادت هذه الشركات من موجات التقاعد المبكر بصورة لم تكلفها شيئاً، إذ حصلت على خبرات ذات وزن معرفي ومهني دون أن تتحمل نفقات التدريب أو بناء القدرات.
وفي المقابل، خسرت الدولة:
•قدرة تراكمية في مؤسساتها
•خبرات في الإدارة والتشغيل
•موظفين يمتلكون ذاكرة مؤسسية غير قابلة للتعويض
وبالتالي، كان التقاعد المبكر في كثير من الحالات تحويل مجاني للخبرة من القطاع العام إلى القطاع الخاص.
⸻
ثالثاً: الماليّة العامة… بين المديونية والإنفاق الجاري
هنا يبدأ الجانب الأكثر حساسية: العلاقة بين التقاعد المبكر والعبء المالي على الدولة وصندوق الضمان الاجتماعي.
رغم أن الدين العام في الأردن بلغ مستويات مرتفعة خلال العقد الأخير، إلا أن هذا الارتفاع لم ينقل الاقتصاد نحو إصلاحات جذرية. بالعكس، فإن زيادة المديونية تزامنت مع:
•توسّع في الإنفاق الجاري
•ارتفاع كلفة الرواتب التقاعدية
•تمدّد تأثير التقاعد المبكر على حسابات الضمان
•تقلّص القدرة على الاستثمار في البنية الإدارية والتنموية
إنه تناقض صارخ: نقترض أكثر… لكن لا نصلح أكثر.
وتُظهر تجارب اقتصادات عديدة أن الدول التي ترتفع مديونيتها دون إصلاح إداري تفقد فعاليتها، مثل:
•اليونان قبل إصلاحات 2015
•الأرجنتين في مراحل الركود
•لبنان قبل الانهيار المالي
•بعض دول أوروبا الشرقية قبل دخول الاتحاد الأوروبي
المعادلة واضحة:
إذا لم تُسخّر المديونية في إصلاح الإدارة وتطوير الاقتصاد، تصبح مجرد عبء متراكم لا يغيّر الواقع.
⸻
رابعاً: مقارنات دولية… لا تتعلق بالعمر بل بالفلسفة
ورغم وفرة الأمثلة العالمية التي تُظهر أن الدول الأكثر تقدماً تعتمد بشكل كبير على أصحاب الخبرة المتقدمة في السن، فقد تجنبتُ عمداً ذكر أسماء رؤساء دول أو وزراء أو قادة عالميين ممن تجاوزوا سن التقاعد في الأردن بسنوات.
ليس لأن الأمثلة غير موجودة، بل لأنها كثيرة إلى درجة لا يحتاج فيها الكاتب إلى الاستشهاد لتوضيح الفكرة.
الفارق بين تلك الدول وبين فلسفة التقاعد في الأردن هو:
•هناك تُعد الخبرة رأس مال وطني
•وهنا تُعامَل الخبرة باعتبارها عبئاً مالياً يجب التخلص منه
هناك ينظرون إلى التراكم المعرفي بوصفه جزءاً من الأمن القومي،
وهنا نراه أحياناً جزءاً من بند النفقات الواجب تخفيفه.
⸻
خامساً: إصلاح سوق العمل لا يتم عبر "توريم الإدارات”
من الأخطاء المفاهيمية الكبرى الاعتقاد بأن معالجة البطالة تتم بزيادة عدد الموظفين في القطاع العام. الدول الريعية فقط هي التي تستخدم التوظيف الحكومي كأداة لإبقاء الاستقرار الاجتماعي.
أما الدول القادرة على النمو فهي تلك التي:
•تقلل الاعتماد على التوظيف الحكومي
•توجه الموارد نحو الإنتاج الحقيقي
•تبني جهازاً إدارياً مرناً ورشيقاً
•تستثمر في التكنولوجيا والرقمنة
•وتستبقي الكفاءات لا أن تدفعها نحو الخروج المبكر
زيادة عدد الموظفين لا تعني زيادة العمل، بل زيادة الإنفاق.
والدولة ليست مؤسسة للتشغيل، بل منظومة إنتاج وتنظيم وإدارة اقتصادية.
⸻
سادساً: الأسئلة التي لا بد أن تُطرح
ضمن هذا السياق، يبرز تساؤل منطقي وجوهري:
إذا أرادت الدولة اليوم إصلاح ملف التقاعد المبكر، فهل تستطيع معالجة الآثار المتراكمة على الآلاف الذين خرجوا من الخدمة خلال العقد الماضي؟
هؤلاء الذين:
•فقدوا وظائفهم
•لم يحصلوا على فرص عادلة للعودة إلى سوق العمل
•لم يُنصفوا في قرارات الإحالة
•لم تدرس آثار خروجهم على الاقتصاد ولا على مؤسسات الدولة
إنها أسئلة عادلة… لكنها ما تزال بلا إجابة واضحة.
⸻
سابعاً: نحو فلسفة وطنية جديدة للخبرة والعمل
إن إصلاح ملف التقاعد المبكر ليس حسبة مالية ولا معادلة اكتوارية فقط؛ إنه مشروع وطني يعيد الاعتبار للخبرة، ويغيّر ثقافة الإدارة، ويمنح الموظف ثقة بأن سنوات عمله ليست عبئاً بل فرصة لخلق قيمة مضافة.
يبدأ الإصلاح الحقيقي من:
•جعل بيئة العمل محفزة وليست طاردة
•تطوير أنظمة التقييم والترقية
•إعادة بناء منظومة الحوافز
•دمج التكنولوجيا لتقليل العمل الروتيني
•الاعتراف بأن الخبرة رأس مال اقتصادي
•تصميم برامج لإعادة دمج من خرجوا في التقاعد المبكر قسراً
وعندها فقط نستطيع القول إننا ننتقل من إدارة الأزمات إلى إدارة المستقبل.
⸻
خاتمة
إن التقاعد المبكر في الأردن لم يعد ملفاً تقنياً، بل أصبح عارضاً من عوارض التشوّه الاقتصادي والإداري.
وإن استمرار استنزاف الخبرات، وتضخم المديونية، وغياب الإصلاح الإداري الحقيقي، كلها عوامل تقدّم دليلاً واضحاً على أننا أمام نزيف صامت يمسّ الدولة والمجتمع معاً.
وما لم نتعامل مع الخبرة بوصفها أحد أهم الأصول الوطنية، ونحوّل البيئة الوظيفية إلى بيئة جاذبة، سيظل هذا النزيف مفتوحاً… وستظل كفاءاتنا تنتقل إلى خارج مؤسسات الدولة، دون أن ندرك أننا نفقد معها قيمة لا تقدّر بثمن