غزة تحت الوصاية الأمريكية
إسماعيل الشريف
التاريخ يعيد نفسه أولًا كمأساة، ثم كمهزلة- كارل ماركس .
أضفى مجلس الأمن شرعية على خطة الرئيس ترامب تجاه غزة، ذلك الرئيس ذاته الذي يسعى إلى تحويل غزة إلى واجهة عقارية فاخرة على شاطئ المتوسط، بعد أن تُفرغ من أهلها عبر التطهير العرقي.
هذا القرار يعيدنا إلى حقبة الانتداب تحت عصبة الأمم بعد الحرب العالمية الأولى، ثم إلى مرحلة الوصاية في عهد الأمم المتحدة عقب الحرب العالمية الثانية، حين كان إضفاء الشرعية على الاستعمار يتم بقرارات تُسوّق للهيمنة تحت ذريعة قيادة الشعوب نحو الاستقلال. واليوم يتكرر المشهد نفسه بخصوص غزة.
في عام 1991 انطلق مؤتمر مدريد برعاية أمريكية ـ سوفييتية، بدلًا من مظلة الأمم المتحدة، قبل أن تنفرد الولايات المتحدة بإدارة الملف. ولم يكن هدف المؤتمر سوى ضمان استمرار الدعم العربي لحرب الخليج، ولهذا رفضت واشنطن انعقاده برعاية الأمم المتحدة حتى لا تتحول قراراتها إلى التزامات قانونية مُلزمة. وهكذا تم تجاوز القضايا الجوهرية، فلم يُناقش وضع المستوطنات النهائي، ولا مستقبل القدس.
ورغم كل السخاء الأمريكي، اضطرت واشنطن إلى إجبار الكيان الصهيوني على المشاركة في المؤتمر، مستخدمة ورقة الدعم المالي والسياسي للضغط عليه. وبعد أكثر من ثلاثة عقود، لا تزال الدولة الفلسطينية حلمًا مؤجّلًا لم يرَ النور، بينما تضاعف عدد المستوطنين في الضفة الغربية عشر مرات، وصودرت نصف أراضي الضفة، وشُيّد نحو مليوني وحدة استيطانية، وصوّت الكنيست رسميًا على ضم الضفة. وعلى الأرض، يعيث المستوطنون فسادًا في مدنها وبلداتها وقراها بدعم جيشها وساستها.
وبعد طوفان الأقصى والمجازر التي ارتكبها الكيان الصهيوني بدعم غربي ، خرجت الشعوب إلى الشوارع في كل مكان تضغط على حكوماتها، ووجد الكيان نفسه في عزلة دولية متصاعدة، وأصبح استمرار الدعم الغربي له عبئًا أخلاقيًا وسياسيًا ثقيلًا. فبات وقف المجزرة ضرورةً لحماية الكيان ذاته، ولإنقاذ صورة الغرب التي تلطخت بدعمه للإبادة. فكان لازما إيقاف المجزرة بعد ان قضى الكيان الصهيوني على معظم خصومه فيما أضعف البقية الباقية.
لم تتضمن النسخة الأولى من المشروع الأمريكي أي ذكر لاحتمال قيام سيادة فلسطينية مستقبلًا، ولكن تمت إضافة ذلك تحت ضغط الدول العربية، ووافقت الولايات المتحدة عليه لضمان تأييد عربي وتمرير بقية بنود الخطة كما هي دون تعديل.
وهكذا استقر النص الذي وافق عليه مجلس الأمن على الجملة التالية:
conditions may finally be in place for a credible pathway to Palestinian self-determination and statehood
أي: قد تكون الشروط متوفرة أخيرًا لمسار موثوق نحو تقرير المصير الفلسطيني وإقامة دولة فلسطينية. وكلمة may هنا ـ مثل «قد» بالعربية ـ تحمل دلالة الاحتمال أو الترجي أو التقليل، ما يجعل المعنى معلقًا ومفتوحًا على الغموض والمساومة.
كما يشير القرار إلى حوار أمريكي ـ صهيوني ـ فلسطيني للتوصل إلى أفق سياسي للعيش المشترك، غير أن هذا الأفق مشروط بإصلاح المؤسسات الفلسطينية وباستكمال إعادة إعمار غزة قبل أن يصبح طريق إقامة الدولة قابلًا للتحقق.
وفي مقابل هذه الإشارات إلى الدولة الفلسطينية، تضمّن القرار ما يفرض وصاية سياسية أمريكية مباشرة على غزة ويفصلها عن بقية فلسطين، ويؤسس لقوة سلام دولية هدفها الأساس نزع سلاح حماس. كما يمنح القرار الولايات المتحدة ـ وبالتالي الكيان الصهيوني ـ التحكم الكامل بالجدول الزمني لانسحاب الاحتلال من غزة، ما يعني عمليًا أن هذا الانسحاب لن يحدث.
وكما لم تُنتج اتفاقية أوسلو دولة فلسطينية، لن تنتج خطة ترامب دولة مستقلة، لأن الأدبيات السياسية الأمريكية تؤكد أن كل جولة مفاوضات وكل خطوة في ما يسمى «مسار السلام» لا تعني إلا مزيدًا من التنازلات، لا تقدمًا نحو التحرر الحقيقي.
ويُلخص المتنبي الواقع حين يقول:
يا أعدلَ الناسِ إلّا في معاملتي
فيكَ الخِصامُ وأنتَ الخَصمُ والحَكَمُ